فهمي هويدي
هل صحيح أن الشعب المصرى مدلل ولا يريد أن يعمل؟ ــ عنوان الصفحة الأولى لجريدة «الشروق» يوم الخميس الماضى «١٢/٣» رد على السؤال بالإيجاب. وجاء الرد على لسان الدكتور أحمد عكاشة رئيس الجمعية المصرية للطب النفسى فى ثنايا كلمة ألقاها فى المؤتمر السنوى للجمعية. لم يشر العالم الكبير إلى المصدر الذى بنى عليه رأيه. وبالتالى فإننا لم نعرف ما إذا كان ذلك انطباعا شخصيا أم استنادا إلى دراسة علمية. وفى كل الأحوال فالملاحظة مهمة وقائلها رجل مهم فى مجاله، ولذلك اهتم بها كثيرون. وتم تداولها على مواقع التواصل الاجتماعى. وهى ذات الأسباب التى تستدعى المناقشة، لأننى أزعم بأن المدلل حقا ليس الشعب المصرى ولكنه السلطة المصرية التى نشأنا على تراث علمنا أنه إذا فاتك «الميرى» ــ المقصود عربة السلطة ــ تمرغ فى ترابه، لكى تفوز ببعض آثاره.
صحيح أن وسائل الإعلام تحدثت فى وقت سابق عن تقارير انتقدت تدنى مستوى أداء موظفى الحكومية. وضعف إنتاجية العامل المصرى. إلا أن ذلك ليس دليلا على أن الشعب مدلل، إذ رغم أن هؤلاء ليسوا كل الشعب ولكنهم يشكلون بعض فئاته. فإن تلك الفئات بين المقهورة أو المهملة والمسحوقة، وآخر ما يمكن أن يوصفوا به أنهم من المدللين المعْرِضين عن العمل. وربما لو نظرنا إلى القطاع الزراعى ولاحظنا نضال الفلاحين اليومى منذ طلوع الشمس إلى غروبها لرأينا وجها آخر للكتلة الأكبر من الشعب المصرى، فيه من علامات الكد والشقاء أكثر مما فيه من علامات الدلال.
الذى لا يقل أهمية عن ذلك أن المعلومة التى ذكرها الدكتور عكاشة تتناقض مع نتائج دراسة ذات صلة أعدها البنك السويسرى يو.بى.اس، ونقلتها قناة سى.إن.إن الاقتصادية العربية. إذ بينت أن العامل المصرى يعمل عددا من الساعات سنويا أكثر من نظيره فى أى بلد من العالم. وبعد دراسة لظروف العمل فى ٧٣ مدينة فى أنحاء العالم تبين أن متوسط عدد ساعات العمل للعامل فى المدن الآسيوية ٢١١٩ ساعة سنويا. أما المتوسط فى الشرق الأوسط فهو فى حدود ٢٠٦٣ ساعة سنويا. وهو فى كوريا الجنوبية ٢٣١٢ ساعة أما فى مصر (فى القاهرة مثلا) فهو ٢٣٧٣ ساعة، وهو الرقم الأكبر بين الـ٧٣ مدينة (متوسط ساعات العمل للإنسان العادى هو ١٩٠٢ ساعة سنويا ــ المتوسط فى باريس ١٥٩٤ ساعة وفى ليون بفرنسا ١٥٨٢).
النقطة الأهم التى أريد أن ألفت النظر إليها أن الشعوب تُربى، وأن السلطة المسئولة عن المجتمع هى التى تتولى التربية سواء بأساليب ونظم الإدارة التى تتبعها أو بالنموذج الذى تقدمه للمجتمع وتدفع الناس إلى تَمَثله واحتوائه. وليس ذلك اختراعا لأننا نعرف جيدا أن الله ينزع بالسلطان ما لا ينزع بالقرآن. ونحفظ قول الإمام على بن أبى طالب: الناس بأمرائهم أشبه منهم بآبائهم. وسبق أن استشهدت فى مقام مماثل بمقولة الفيلسوف الفرنسى هلفيتبوس فى القرن الثامن عشر، التى ذكر فيها أن التفاعل بين المجتمع والسلطة ذو اتجاه واحد. فالشعب لا يؤثر فى طبيعة السلطة وإنما تؤثر السلطة فى خصائص الشعب وأخلاقه. واستنتج من ذلك أن السلطة مسئولة عن مساوئ الشعب، كما أنها مسئولة عن محاسنه.
إن الصين التى هدَّها إدمان الأفيون فى القرن الثامن عشر هى التى أصبحت مصنع العالم الآن والمنافس الأكبر للولايات المتحدة. والمدمنون هم أنفسهم الذين صاروا منتجين بهروا الجميع بقدراتهم وعطائهم. والمصريون الذين انكسروا وهُزموا فى عام ١٩٦٧ هم أنفسهم الذين عبروا وكسروا شوكة الإسرائيليين وكبرياءهم فى عام ١٩٧٣. لم تهبط عليهم معجزة من السماء، لكنهم تغيروا حين تغيرت إدارتهم واستطاعت أن تحول الانكسار إلى انتصار.
هذه الفكرة يؤيدها المثل الأمريكى القائل بأنه حين يتكرر رسوب التلاميذ فى أحد الصفوف الدراسية، فسكيون العيب فى الأستاذ وليس فى التلاميذ، لأن ذلك يعنى أنه فشل فى أن يستخلص من التلاميذ أفضل ما فيهم.
هذه الخلفية تسوغ لى أن أقول إن المشكلة الحقيقية ليست فى خصال الشعوب وطبائعها. بقدر ما أنها فى سلوك السلطة والنهج الذى تتبعه فى إدارة المجتمع. والقصة التى تابعها المصريون فى الأسبوع الماضى لها دلالتها فى هذا الصدد. ذلك أن جريدة «الوطن» كانت قد نشرت تقريرا أبرزته على صفحتها الأولى ذكرت عناوينه أن ١٣ جهة سيادية فى مصر لا تدفع ضرائب موظفيها لخزانة الدولة. فى مقدمتها الرئاسة والمخابرات العامة ووزارتا الدفاع والداخلية. وبسبب ذلك يضيع على الدولة نحو ٨ مليارات جنيه سنويا. إلا أن النشر أزعج الجهات المعنية فصدرت التعليمات بوقف طباعة الجريدة وسحب التقرير وتغيير ٣ صفحات من عدد الأربعاء ١١/٣. لكن الخبر تسرب وتناقلته وسائل التواصل الاجتماعى مع صور لعدد الجريدة قبل الحذف وبعده. الأمر الذى استدعى سيلا من التعليقات الناقدة والساخرة، ورغم أن التقرير اختفى من الجريدة لكن رسالته وصلت إلى الكافة. وكانت بمثابة دعوة لكل من يستطيع أن يتهرب بدوره من دفع الضرائب أسوة بالجهات السيادية التى ضربت النموذج فى هذا المضمار.
لقد ظلم الدكتور أحمد عكاشة الشعب المصرى حين وصفه بأنه «مدلل» ولا يريد أن يعمل. وفى حين أطلق حكمه على الشعب بهذه الصورة فإنه لجأ فى حديثه إلى إعذار السلطة وتبرئة ساحتها. لأنه بعد ذلك تساءل مستنكرا: ماذا يفعل الرئيس السيسى إزاء ذلك؟ ما أقلقنى فى الموضوع ليس فقط مدى الظلم والجور الذى تبدَّى فى تقييم الدكتور عكاشة للشعب المصرى، ولكن أيضا أن الرجل عضو فى المجلس الاستشارى للعلماء الذى عينه الرئيس السيسى. إذ خشيت أن يكون قد أقنع أعضاء المجلس بوجهة نظره فى أن الشعب هو المشكلة التى ينبغى التفكير فى حلها!