فهمي هويدي
ما عادت سيناء أرض الفيروز ومستودع المعادن، لأنها غدت أرض الألغاز والأحزان. على الأقل فإنها بدت هكذا فى نشرات أخبار الأسبوع الماضى التى كان الإرهاب فى سيناء أبرز عناوينها. ولم يكن ذلك مفاجئا تماما لأن أحداثها الدامية ما برحت تطل علينا بين الحين والآخر طوال العام الأخير. ومنذ خضبت دماء الجنود المصريين أرضها أثناء الحروب وبعدها. فإن لون الدم خطف الأبصار وأنسى الجميع حكاية الفيروز. وحين تجدد فيها القتال ضد الجماعات الغامضة التى تشكلت وكبرت فى الظلام حتى توحشت، فإن أخبار سيناء أصبحت زبونا دائما فى صفحات الحوادث دون صفحات الترويح والسياحة. واحتلت صور الإرهابيين وجثثهم مكان صور الأفواج السياحية فى منتجعاتها وشواطئها.
بالنسبة للمواطن العادى ظلت سيناء بعيدة عن العين والقلب طول الوقت. لذلك أصبحت عَصِيَّة على الفهم ومسكونة بالألغاز والأحاجى قبل الاحتلال الإسرائيلى (عام ١٩٦٧) وبعده، ثم شغل النظام فى مصر بعد اتفاقية السلام باستثمارها سياحيا بأكثر مما عمل على احتضانها وتنميتها اقتصاديا وعمرانيا، حتى ذهب خيرها للسائحين بأكثر مما ذهب لأهلها المقيمين. وانتهى بها المطاف منطقة عسكرية مغلقة صار المجهول فيها أكثر من المعلوم. والمعلوم تلاحقه الشائعات بأكثر مما تسوقه المعلومات.
ما حدث فى شمال سيناء يوم الأربعاء الماضى (الأول من يوليو) يقرب الصورة إلى الأذهان، ذلك أن جيشا صغيرا من أنصار بيت المقدس (جريدة الشروق ذكرت أن عددهم أكثر من ٣٠٠ شخص) حاول أن يقتحم مدينة الشيخ زويد الرئيسية فى محافظة شمال سيناء. فى وقت مبكر من صباح ذلك اليوم هاجموا ١٥ كمينا ونقطة ارتكاز، بعدما قاموا بتلغيم الطريق إلى المدينة لقطع الطريق على أى إمداد للدفاع عنها (تم تفكيك ٥٥ عبوة ناسفة من محيطها). واستخدموا فى ذلك عربات دفع رباعى وأسلحة ثقيلة مثل مدافع هاون وقذائف آر بى جى. وبعض تلك الأسلحة لم يظهر من قبل مثل صواريخ «كورتينا» المضادة للطائرات. وبعدما دخل المهاجمون إلى المدينة وحاولوا استعراض قوتهم فيها، تحركت القوات الجوية وظهرت فى سماء المدينة طائرات إف ١٦ المقاتلة ومروحيات الأباتشى التى حصدت المهاجمين وأفشلت خطتهم. وتضاربت المعلومات الخاصة بأعداد الضحايا المصريين، الذين ذكر فى البداية أنهم ٦٤ شخصا، ولكن المتحدث العسكرى صوَّب الرقم بحيث أصبح ١٧ فقط، فى حين أن قتلى المجموعة الإرهابية تجاوز عددهم ١٧٠ شخصا.
إذا نحينا جانبا التضارب فى المعلومات المتعلقة بأعداد الضحايا، فالثابت أننا كنا بصدد عملية كبيرة فى تجهيزاتها ومقاصدها. إذ لفت الانتباه نوعية السلاح الثقيل المستخدم، والمجموعة الكبيرة التى شاركت فيها، وجرأة المخطط الذى استهدف الاستيلاء على المدينة ورفع أعلام داعش عليها، فى محاولة لاستنساخ التجارب المماثلة التى تمت فى سوريا والعراق. وهو ما دل على سذاجة مستوى التفكير والإدراك لدى المخططين الذين لم يدركوا الفرق بين كفاءة القوات المسلحة المصرية وبين أوضاع الجيوش الممزقة فى البلدين المذكورين.
رغم شح المعلومات التى توافرت عن المعركة، فإن ذلك لم يحجب أسئلة لا تزال مثارة حول هوية المهاجمين الذين لم نعرف ما إذا كانوا جميعا مصريين أم أن بينهم عناصر من جنسيات أخرى. (جريدة الشروق ذكرت أن بينهم فلسطينيين وأفغان وأوروبيين) كما أن هناك أسئلة أخرى حول مصادر ومستوى التسليح والخبرة التى توافرت لهم، وحول المخطط الذى وضع للعملية وما اتسم به من أحكام. وقبل كل ذلك وبعده فإن ثمة أسئلة أخرى حول تزايد خطر تلك المجموعة رغم أن المحاولات الحثيثة لإجهاض عملياتها والقضاء عليها لم تتوقف طوال السنتين الماضيتين، وهو ما يفترض أن يكون قد أدى إلى إضعافها وتوجيه ضربات قوية لقدراتها، ولكن ذلك لم يحدث بل حدث العكس.
ثمة حلقات لا تزال غامضة فى خلفيات المجموعة التى بدأت فى تسعينيات القرن الماضى صدى لفكرة السلفية الجهادية وحملت اسم «التوحيد والجهاد» وهؤلاء أصبحوا لاحقا أنصار بيت المقدس الذين نشطوا فى مواجهة إسرائيل وقاموا بتفجير أنبوب الغاز الواصل إليها عدة مرات فى عهد مبارك، ثم التحقوا بتنظيم القاعدة وانتهوا مبايعين لزعيم جماعة داعش وإقامة ما سمى بولاية سيناء. وهى أطوار لم نعرف ملابساتها، كما تفسر نقل نشاطها من مواجهة إسرائيل من سيناء إلى نقل ذلك النشاط إلى الداخل المصرى (الدلتا بوجه أخص). كما أن الغموض يكتنف ارتباطات المجموعة التى هى على اشتباك دائم مع حركة حماس فى غزة. وهو اشتباك استخدم فيه السلاح عام ٢٠٠٩ حين أعلن أقرانهم آنذاك عن إقامة إمارة إسلامية فى القطاع. الأمر الذى أدى إلى صدام سقط فيه ٢١ قتيلا. وقد بثوا شريطا قبل أيام هاجموا فيه حماس بعنف بدعوى أنهم لم يطبقوا شرع الله وطال هجومهم جماعة الإخوان التى تنتمى إليها حماس. لذلك كان مستغربا أن تشير بعض الصحف المصرية إلى أن ثمة تنسيقا بين داعش سيناء وبين الإخوان.
من الأسئلة الأخرى التى تثيرها المواجهات المسلحة التى لم تتوقف ضد الجماعات الإرهابية فى سيناء ما يلى: إذا كنا لم نحقق ما نصبو إليه من حسم للصراع خلال السنتين الماضيتين، فهل نتوقع نتائج أفضل إذا سرنا على ذات النهج خلال الفترة المقبلة؟ وهل حان الوقت لطرح تفكير آخر فى الموضوع يخاطب المجتمع السيناوى بلغة أخرى ويداوى جراحه بأساليب مغايرة تتجاوز الاشتباك إلى الاحتضان والاحتواء؟ وهل يمكن أن يكون للسياسة دور فى التفكير الجديد؟