«الباشا» الذى فى المطار

«الباشا» الذى فى المطار

المغرب اليوم -

«الباشا» الذى فى المطار

فهمي هويدي

يتحدث جورج أورويل فى روايته الشهيرة (١٩٨٤)عن «شرطة الأفكار» التى تراقب سلوك الناس وما يدور بخلدهم وعن المصير البائس الذى ينتظر من يضبط متلبسا بارتكاب «جريمة التفكير» فى دولة الأخ الكبير. وهى التى تخيلها الكاتب فى إنجلترا إذا وقعت فى قبضة النازية التى كانت صاعدة فى أوروبا خلال أربعينيات القرن الماضى. شرطة الأفكار هذه تراقب الناس فى بيوتهم من خلال شاشات معدنية ترصد كل ما يجرى فى داخلها، وفى ضوء ما تنقله من معلومات تتحدد مصائر الأفراد وتصدر التوجيهات والتعليمات. وهى المهمة التى تتولاها «وزارة الحب» المسئولة عن انفاذ القانون والحفاظ على النظام العام فى الرواية، متعاونة فى ذلك مع «وزارة الحقيقة» التى تتولى صياغة الأخبار وبثها.

هذه المشاهد أستحضرها فى مطار القاهرة فى كل ذهاب وعودة. باعتبارى أحد العاملين فى مجال الأفكار. إذ أقف أمام ضابط الجوازات الجالس وراء لوح زجاجى. وحين أعطيه جواز السفر فإنه يمرره فى جهاز ممغنط فى متناول يده، وينقر بأصابعه لوحة أمامه، ثم يلقى نظرة على شاشة الكمبيوتر التى تذكرنى بالشاشة المعدنية فى رواية أورويل، وهذه تستخرج له بعض معلومات وزارة «الحب». يركز الرجل فيما يطالعه ثم يطوى جواز السفر ويطلب منى الانتظار جانبا. وفى الوقت ذاته يشير بيده إلى أحد رجال «شرطة الأفكار» ويعطيه الجواز فى صمت. جندى الأفكار مدرب ويعرف إلى أين يذهب. يستدير وينطلق بخطى سريعة إلى أن يختفى عن الأنظار، ثم يعود ليجلس صامتا فى إحدى زوايا المكان. لا أحد يتكلم أو يفسر. فالشرطى ينفذ التعليمات والضابط الجالس وراء اللوح الزجاجى يواصل عمله حيث ينصرف إلى ختم جوازات بقية الواقفين فى الطابور. ولا يكون أمامى سوى الاستنتاج. فالضابط قرأ على شاشة الكمبيوتر معلومات لم تطمئنه وتوجيهات اقتضت الرجوع إلى «الباشا» مسئول شرطة الأفكار فى المطار. وهذا الأخير هو الذى يصدر القرار النهائى فى ضوء المعلومات أو التوجيهات التى لديه. وهى عادة تتراوح بين التحفظ أو المنع أو استدعاء صاحب جواز السفر لسؤاله عن وجهته وأسباب سفره، أو يكتفى الباشا المسئول بالإطلاع على جواز السفر وتقليب صفحاته للتعرف على التأشيرات المسجلة فيه. ثم يأذن بإعادته إلى صاحبه لمواصلة السفر.

تسلمت الجواز بسرعة فى رحلة الذهاب إلى عمان فى الأسبوع الماضى، غير أن الأمر اختلف فى العودة. ذلك أن ضابط الجوازات ألقى نظرة على شاشة الكمبيوتر ويبدو أنه لأول وهلة لم يجد فيما ظهر أمامه ما يستحق مراجعة ضابط الأفكار فختم الجواز وعبرت الحاجز متجها إلى مكان استلام الحقائب، إلا أننى وجدت شابا يهرول مرددا اسمى وفى يده بطاقة الدخول التى ملأتها. سألته من يكون وماذا يريد، فقال لى إنه أمين شرطة، ويريد منى أن أعيد له جواز السفر وأن أصحبه لأنتظر وراء الحاجز الذى عبرته للتو. فهمت الرسالة فامتثلت وعدت لكى انتظر إلى جوار الحاجز رافضا الاصطفاف وراءه، وهو ما أقلقه فجاء إلى أحد الضباط الذى أفهمنى أن وقوفى فى مكانى سوف يعرضه للمساءلة. استغربت ما قاله، وكبَرت دماغى وقلت اننى لا أريد أن أسبب له أذى. فعبرت الحاجز وانتحيت جانبا. جاء وقوفى مقابل طابور الخارجين. وهو ما أثار دهشة وتساؤل من عرفنى وفضول من لم يعرفنى. ظللت معروضا أمام الجميع لبعض الوقت، ومشيعا بنظرات العابرين إلى أن عاد جواز السفر من مكتب «الباشا» وسلمه إلى الضابط الذى جنَبته المساءلة وهو يتمتم قائلا: حمدالله على السلامة. لم أتلق تفسيرا أو ايضاحا، ولا توقعت اعتذارا. لكنى لم أفهم لماذا الاحتجاز ولا لماذا الإطلاق. وإنما ترك لى أن استنتج الرسالة، التى لم أجدها بعيدة عن ممارسات وزارة الحب وأساليب شرطة الأفكار.

أدرى أن أبرياء آخرين لقوا مصيرا أسوأ من الإيقاف. وأفهم أن آخرين من النشطاء يتعرضون فى المطار لمثل ما تعرضت له ومنهم من منع من السفر لأسباب مجهولة بناء على تعليمات جهات غامضة لكن ذلك لا يبرر ما جرى. لأن وقوعه والسكوت عليه يضم مصر بالتدريج إلى بلاد الخوف والترويع التى يبدو عالم أورويل النافر من النازية نموذجا لها. ناهيك عن أنه يعد تكذيبا عمليا لما أعلنه الرئيس عبدالفتاح السيسى فى نيويورك أخيرا من أن فى مصر «حريات غير مسبوقة» علما بأننا ما عدنا نطمح إلى ذلك، وإنما صرنا قانعين بالقدر المتواضع من الحريات العادية التى كنا نمارسها فى «العهد البائد»!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«الباشا» الذى فى المطار «الباشا» الذى فى المطار



GMT 14:47 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

حرب اعتزاز ومذكرة مشينة

GMT 14:46 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

شالوم ظريف والمصالحة

GMT 14:44 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

العدالة... ثم ماذا؟

GMT 14:42 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان وسؤال الاستقلال المُرّ

GMT 14:40 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

شاورما سورية سياسية مصرية

GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:01 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

استقرار لبنان... رهينة التفاوض بالنار

GMT 13:59 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

تغييرات في تفاصيل المشهد

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ المغرب اليوم

GMT 15:24 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة
المغرب اليوم - أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة

GMT 21:05 2019 الجمعة ,06 أيلول / سبتمبر

تنتظرك أجواء هادئة خلال هذا الشهر

GMT 04:31 2017 الجمعة ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

قلة تناول "أوميغا 3" يؤدي إلى ضعف السلوك الاجتماعي

GMT 23:34 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

الذهب يلامس قمة جديدة والفضة عند أعلى مستوى في 12 عاما

GMT 06:11 2017 السبت ,17 حزيران / يونيو

تعرف على توقعات أحوال الطقس في طنجة السبت

GMT 15:38 2014 الإثنين ,08 كانون الأول / ديسمبر

فوائد الحلاوة الطحينية

GMT 06:15 2017 الأربعاء ,25 كانون الثاني / يناير

شركات الأقمشة تطرح تصميماتها الرائعة من حرير "الدمسق"

GMT 18:40 2016 الثلاثاء ,13 كانون الأول / ديسمبر

عمرو أديب يستضيف إسلام البحيري بعد العفو الرئاسي عنه

GMT 18:34 2016 الإثنين ,18 كانون الثاني / يناير

فلويد مايويذر يقوم بجولة يزور خلالها 8 مدن إنجليزية

GMT 19:41 2016 الخميس ,08 كانون الأول / ديسمبر

تسرّب الماء الصالح للشرب في مدينة بركان المغربية

GMT 03:47 2017 الخميس ,05 تشرين الأول / أكتوبر

جيهان السادات تنفي تورط مبارك في اغتيال الرئيس الراحل
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib