فهمي هويدي
خبر الصباح لم يكن مبهجا بأى حال، جاء محبطا على الصعيدين الشخصى والعام. فثمة زيادات فى الضرائب على المبيعات والهاتف المحمول والبن والمياه الغازية وسيارات الركوب و...و...إلخ. ومن خبرتنا فإن الزيادة فى أسعار بعض السلع تجر وراءها سلعا أخرى. من ثم فإن خلاصة الرسالة أن الحكومة قررت أن تفك أزمتها عن طريق وضع أيديها فى جيوب كل واحد منا، والأخذ منها. وهو ما يشكل سببا إضافيا للاستياء والغيظ. إن مبلغ علمى أن الأخذ من الناس هو أسهل الحلول، فضلا عن أنه أحد الحلول التى يتبناها صندوق النقد الدولى انطلاقا من سياسة توسيع نطاق دافعى الضرائب التى يدعو إليها. وهى سياسة يبدو عنوانها جذابا، إلا أنها تظلم الفقراء كثيرا، بل تظلم محدودى الدخل وشريحة الطبقة المتوسطة، لأنها تضعهم على قدم المساواة مع الأثرياء الذين لا تتأثر دخولهم كثيرا فى هذه الحالة. ما أفهمه أنه فى مواجهة أى أزمة اقتصادية تتراوح الخيارات المطروحة للحل بين إعلان التقشف وشد الأحزمة على البطون وبين استنفار الأمة لمضاعفة العمل وزيادة الإنتاج، أو إعادة هيكلة النظام القائم للتخلص من أوجه الإنفاق غير الضرورية والحصول على أفضل عائد ممكن من المشروعات والمؤسسات الإنتاجية القائمة. وهناك خياران آخران أحدهما غير مستحب ويتمثل فى زيادة أسعار السلع وآخر مكروه (البعض يعتبره محرما) يتمثل فى الاقتراض من الخارج، خصوصا من جانب صندوق النقد الدولى الذى لا يهب القروض للدول المأزومة، ولكنه يقدمها بشروط معينة لا مفر منها. بصرف النظر عما إذا كانت تلك الشروط معلنة أم غير معلنة. (للعلم: لم يقل لنا أحد فى مصر ما إذا كانت الإجراءات الاقتصادية التى تقدم عليها الحكومة لها علاقة بطلبات صندوق النقد أم لا. لكننا قرأنا فى الصحف أن القرض بلا شروط، فى حين تقسم مصادر الصندوق بالثلاثة مؤكدة أن تلك الإجراءات تعد استجابة «لمقترحات» الصندوق. وقال لى أحد الخبثاء إنها مقترحات حقا، لكنها «ملزمة» فى نهاية المطاف). سمعت رأيين فى شأن الزيادات المقترحة على الأسعار التى أصابتنى بالإحباط فى ذلك الصباح. الأول ينحاز إلى الأعذار ويدعو إلى التفرقة بين إنقاذ الموقف الاقتصادى وتحقيق الإصلاح الاقتصادى. وفى رأى أصحابه أن الإنقاذ يتطلب اتخاذ إجراءات عاجلة فى حين أن الإصلاح الاقتصادى يتطلب وقتا طويلا، ناهيك عن أن دراسته تحتاج إلى 18 شهرا على الأقل. يقولون فى هذا الصدد إنه إذا صادفك حريق يوما ما، فأول ما ينبغى أن تفعله هو أن تقوم بإطفائه، حتى إذا ترتبت على ذلك خسائر جانبية أخرى. وليس من العقل أو الحكمة أن نبدأ بدراسة الأسباب التى أدت إلى الحريق وتتخذ الاحتياطات الواجبة لعدم تكرار اندلاعه، الأمر الذى إذا أعطيناه الأولوية فسوف يلتهم الحريق كل شىء قبل أن نتمكن من إنجازه ما يجب عمله. هذا التحليل يتبنى شعار لنطفئ الحريق بمنتهى السرعة أولا ثم نتكلم فيما يجب عمله بعد ذلك. وهو منطق يفرق بين العاجل والضرورى، ويعتبر أن العاجل هو إطفاء الحريق بمعنى توفير السيولة المطلوبة بشكل ملح فى الوقت الراهن، والضرورى هو أن يتحقق الإصلاح الاقتصادى بما يكفل علاج جذور الأزمة وتحقيق العدالة الاجتماعية المرجوة. أصحاب الرأى المقابل يقولون إنه ليس من الحكمة أيضا أن نطفئ حريقا لكى تشعل حريقا آخر، وهم يعتبرون أن ما يجرى الآن لا يحقق بالضرورة هدف الإطفاء، لكنه يهيئ المناخ لإطلاق حرائق أخرى، لأن القرارات غير الصائبة التى لم تدرس جيدا قد لا تحقق الهدف المرجو، فى حين أنها تفتح الباب لتعميق الخلل فى النسيج الاجتماعى، الأمر الذى يؤدى إلى إشاعة الاحتقان فى أوساط الفقراء وشرائح الطبقة المتوسطة. من هولاء من يقول إن العجلة لا تبرر اتخاذ القرارات الخطأ، خصوصا إذا كان الرأى العام ليس مدركا لحقيقة وأبعاد الأزمة الاقتصادية الراهنة. وكثيرون لا يعرفون مثلا أن الدين المحلى الذى تجاوز تريليون جنيه يجعل كل إنسان فى مصر بما فى ذلك الأطفال مدينا بمبلغ 14 ألف جنيه لا غير. علما بأن ذلك الدين يمثل 70٪ من قيمة الناتج المحلى، وهذه نسبة عالية وخطرة. سألنى أحدهم مستنكرا: كيف يفسر أن يصدر قرار بفرض ضريبة على البورصة دون أن يسمع رأى المسئول الأول عن البورصة؟ ويفاجأ الرجل بالخبر منشورا فى صحف الصباح، وألا يعنى ذلك أن القرار لم يأخذ حقه من الدراسة، الأمر الذى يضعف من نتائجه ولا يحقق الهدف المرجو منه. وهذا القصور فى الدراسة ينطبق على قرارات أخرى منها ما تعلق بالضرائب التصاعدية التى استفاد منها أصحاب الملايين أو بقرار الإغلاق المبكر للمحال التجارية الذى لم تستطع الحكومة تنفيذه، أو حتى بقرار التعجل فى الاقتراض من صندوق النقد الدولى. وضعنى الرأيان فى حيرة لأننى وجدت حجج كل منها مقنعة. فالإعذار مطلوب وهو مهم للغاية، لكن الارتجال وعدم وضوح الرؤية يسحب من رصيد الإعذار، ويكرس الإحباط ولا يبدده. لا تسألنى ما العمل، لأن فى البلد عقولا عليها ان تبحث لنا عن «خروج آمن» من الأزمة، لا خير فيها إن هى سكتت، ولا خير فينا إذا لم ننصت إليها. نقلاً عن جريدة "الشروق"