فهمي هويدي
حدث ذلك بعد مضى نحو 4 سنوات على انتفاضة المصريين دفاعا عن حريتهم وكرامتهم. التى انتهت بإسقاط حسنى مبارك وتخليه عن منصبه. يوم الخميس 31 أكتوبر اصطحب الشاب أسلم فتحى أمه لزيارة طبيبها فى مدينة المنيا. وفوجئ وهو هناك بانهيار عمارة بجوار البناية التى تقع فيها عيادة الطبيب. ولأنه صحفى ويراسل قناة إم بى سى مصر. فإنه اتجه إلى المكان ليتقصى الأمر ويؤدى عمله فى تغطية الحادث. إلا أنه وجد أن الشرطة منعت الدخول إليها. فتوجه إلى الضابط المسئول وشرح له الأمر. وطلب السماح له بعبور الحاجز والدخول إلى المكان. وأبرز له بطاقة التعريف التى تثبت صفته كإعلامى ومراسل للقناة المذكورة. رفض الضابط طلبه ودفعه بيده، قائلا غور من هنا. وهو ما استغرب له الصحفى الشاب فقال له: لو سمحت ابعد يدك عنى، واسمح لى بالدخول لكى أؤدى عملى، إلا أن الضابط لم يأبه به ودفعه مرة أخرى، فكرر الصحفى الشاب رده عليه. «فأمسكنى الضابط من رقبتى وسحلنى إلى سيارة الشرطة وهو يقول: ألم أقل لك غور يا ابن كذا وابن كذا» ــ (الأوصاف لا تصلح للنشر). لم يستسلم الشاب وإنما قرر الدفاع عن كرامته، فقاوم الضابط ودفعه بعيدا عنه. فاستشاط صاحبنا غضبا وأشار إلى جنوده لتأديبه. وحينئذ انقض عليه نحو 15 جنديا، وقاموا بتكبيل يديه ورجليه وانهالوا عليه بالضرب ثم حملوه إلى قسم بندر المنيا القريب من المكان. وطوال الطريق ظلوا ينهالون عليه بالصفع على الوجه، ويضربونه بالعصى والأحزمة. حاول أسلم أن يذكرهم بأنه صحفى، فرد عليه أحدهم قائلا «بلا إعلام بلا كذا كلكم أولاد كذا وكذا». وما أن وصل إلى القسم حتى أدخلوه إلى حجرة واسعة وأعادوا تقييد يديه ورجليه، ثم أوصلوا القيود بخشبة معلقة بين كرسيين (أدرك لاحقا أنه يطلق على هذه الطريقة فى التعذب اسم الشنطة). وطوال ساعتين ظل أسلم يتلقى ضربا متواصلا بالعصى والأحزمة فى كل أنحاء جسمه، من العساكر والضباط.
فى جولة أخرى نقلوا أسلم إلى حجز القسم، وأمروه بأن يضع وجهه فى الحائط. وتركوه فى ذلك الوضع نحو ساعتين، بعدهما انفتح الباب دخل عليه ضابط كبير، ووجه إليه الكلام قائلا «انت عامل نفسك راجل» ثم دعاهم إلى إعادته إلى الغرفة الواسعة مرة أخرى لكى يتلقى وجبة جديدة من التعذيب، شارك فيها الضابط الكبير الذى طلب منه أن يعلن بصوت عال أنه كذا (الكلمة لا تصلح بدورها للنشر). بعد ذلك أعاده إلى الحجز، وأدخلوه فى دورة المياه وأمروه ألا يخرج منها، فامتثل. لكنهم نقلوه بعد قليل إلى غرفة التعذيب مرة ثالثة، وانهالوا عليه بالضرب والسباب بمشاركة الضابط. وهو ما لم يحتمله الصحفى الشاب فانهار وتوسل إليه قائلا إنه مستعد لأن يفعل أى شىء يؤمر به بما فى ذلك أن يقبل قدميه. فما كان من الضابط إلا أن قال له: هل تعلمت الدرس؟ ورغم أنه رد بالإيجاب، إلا أن ذلك لم يغفر له، لأن حفلة الضرب ظلت مستمرة إلى أن توقفت، وبعدها نقل إلى الحجز مرة أخرى.
ظهر اليوم التالى عرضوه على النيابة، فطلب منهم أن يسمحوا له بالاتصال بأهله، لكنهم رفضوا وساقوه إلى مكتب وكيل النيابة. وهناك صادف شخصا أسر له برقم هاتف شقيقته وطلب إبلاغها بمكانه. أمام النيابة وجد بانتظاره محضرا يتهمه بالتعدى على السلطات، وتقريرا من الضابط الأول نسب إليه أنه هو الذى ضربه. وأمام وكيل النيابة وهو فى حالة انهيار نفسى ومعنوى قال أسلم للمحقق إنه من أخطأ. وطلب من المحقق أن يكتب أى شىء مبديا استعداده للتوقيع على ما لم يقله. والتقى هناك الضابط صاحب المشكلة فكرر أسلم اعترافه بخطئه واستعداده لأن يقبل قدميه مقابل إطلاق سراحه، لأنه كان مقتنعا بأنه إذا أعيد إلى الحجز مرة أخرى فلن يخرج إلا ميتا. واعتبر ذلك تصالحا معه فأخلى سبيله.
هذه خلاصة القصة التى نشرتها جريدة «الشروق» يوم الثلاثاء 5 نوفمبر، وذكرت فيها أن أهل أسلم نقلوه بعد ذلك إلى مستشفى جامعة المنيا التى رفضت كتابة تقرير يتهم فيه الضابط بتعذيبه فى القسم. ولأنه أراد العودة إلى بيته بأى طريقة. فقد قبل فى المستشفى ان تذكر فى التقرير أنه تعرض لإلقاء حجر عليه بينما كان يمر بالقرب من مشاجرة فى الشارع.
أضافت «الشروق» فى التقرير المنشور أن أسلم حين استعاد هدوءه عاد إلى النيابة وقدم بلاغا بتعرضه للتعذيب، وأمرت النيابة بتوقيع الكشف الطبى عليه فى مستشفى المنيا العام، الأمر الذى أدى إلى إثبات إصابته بسجحات وكدمات فى أنحاء جسمه. ومع ذلك فإن مدير أمن المنيا لايزال مصرا على أن حجرا ألقى على أسلم فأصابه، وأنه هو الذى اعتدى على الضابط البرىء أثناء تأدية عمله، حتى مزق ثيابه!
القصة بتفاصيلها الفاجعة تصدمنا، ذلك أنها تصور لنا كيف لايزال يعامل المواطنون فى أقسام الشرطة، رغم أن الصحفى الشاب من أفضلهم حظا، لأن ضابطا على صلة بأسرته توسط لإخراجه بعد تصالحه مع الضابط بطل القصة.
الأخطر من ذلك أننى رأيت فى القصة رمزا للصراع الذى لم يتوقف بين رموز مرحلة مبارك، الذى كان سلوك الضابط المتعجرف وزملائه القساة رمزا له، وبين قيم ثورة 25 يناير التى حفزت الصحفى الشاب على الدفاع عن كرامته ودفعته إلى الحرص على أدائه لواجبه. إلا أن ما أخافنى فى المشهد هو نهايته، التى أبدى فيها الصحفى الشاب استعداده بعد انهياره لأن يقبل قدمى الضابط لكى يرحمه ويطلق سراحه. وهو ما ملأنى بالتوجس والقلق. لأننى خشيت أن تكون تلك نهاية الصراع، التى نشم بعض روائحها هذه الأيام.