فهمي هويدي
حين تابعت الحلقة الأخيرة من برنامج الدكتور باسم يوسف التى أذيعت مساء الجمعة الماضى 25/10 لاحظت أنه تحدث بحذر ورفق شديدين عن الجيش والفريق السيسى، حتى قلت إنه بالمقارنة بحلقاته التى كان يخصصها بالكامل للسخرية من الرئيس مرسى والإخوان فإن ما صدر عنه فى حلقته الأخيرة كان أقرب إلى الغزل والملاطفة. لكننى فوجئت بردود الأفعال الغاضبة عليه فى بعض الأوساط المصرية. فبعد ساعات قليلة من بث الحلقة ذكر أحد الضباط المتقاعدين الذى يقدم بحسبانه خبيرا استراتيجيا وثيق الصلة بالأجهزة الأمنية أن الحلقة أثارت الاستياء فى أوساط القوات المسلحة. وأثارت الملاحظة سيلا من التعليقات على «تويتر» التى كان بعضها مؤيدا فى حين عارضها البعض الآخر، حتى تساءل أحد المعلقين عما إذا كان الأمر سيترجم إلى بلاغ مقدم إلى النائب العام ضد باسم يوسف. وقال آخر إن وقفة احتجاجية ستتوجه إلى دار القضاء العالى، تعبيرا عن غضب البعض إزاء البرنامج، وقرأت أن الموضوع كان سببا لاشتباك بالأيدى وقع بين المصريين فى دبى. واقترح أحدهم على رسام الكاريكاتير الشهير مصطفى حسين أن يظهر باسم يوسف وهو يمسك خنجرا يطعن به مصر فى ظهرها، على غرار ما سبق له أن رسمه عن الدكتور محمد البرادعى، حين اعتبر أن استقالته طعنة لمصر ولنظام الثالث من يوليو.
كثيرة هى القرائن الدالة على تنامى الحساسية فى مصر إزاء الجيش، الأمر الذى دفع البعض للدعوة إلى تفرده بأوضاع خاصة تميزه عن بقية مؤسسات الدولة، بما يضفى عليه قدرا من الاستقلالية السياسية، التى تتجاوز بكثير حدود الاستقلالية المهنية المتعارف عليها فى جيوش العالم. وهؤلاء لا يجعلون من الجيش قلعة ودرعا يحمى الوطن فحسب، ولكنهم يريدون لقيادته أن تصبح لاعبا فى الساحة السياسية وطرفا فى تجاذباتها وصراعاتها، الأمر الذى يحوله فى نهاية المطاف إلى دولة داخل الدولة. وإحدى المشكلات التى نواجهها فى هذا الصدد تتمثل فى المزايدات التى يمارسها البعض، ليس فقط من بين غلاة المؤسسة الأمنية والعسكرية، ولكن أيضا من بعض الرموز المدنية التى لا ترى لها حضورا أو وزنا ما لم يقترن ذلك بالاتكاء على الجيش والتزلف له.
هؤلاء لا يكتفون بالدفاع عن احترام القوات المسلحة وتقدير دورها النبيل فى الدفاع عن الوطن، ولكنهم يريدون تحويل الاحترام إلى نوع من التقديس، والاحترام صيغة مسكونة بالمحبة التى تحتمل التفاعل والأخذ والرد فى إطار الحرص والثقة. أما التقديس فإنه يقترن بالخضوع والخوف. وفى ظل الاحترام فإننا ننحنى للقوات المسلحة طائعين فى حين أننا فى ظل التقديس نزعم على كتمان مشاعرنا والانحناء تعبدا وتسليما.
تصادف أننى تابعت حلقة تليفزيونية جرى بثها فى الأسبوع الماضى، قام من قدمها بمحاكمة مديرة لإحدى المدارس، يبدو أنها تحفظت على إقحام موضوع الجيش فى اليوم الدراسى، وأثناء المحاكمة قام صاحبنا بتقريع مديرة المدرسة وقام بترهيبها من خلال دعوة وزير التعليم لأن يجرى تحقيقا معها، ثم قال فى ختام حلقته فيما يشبه الهتاف الذى أراد به مخاطبة أولى الأمر أن الجيش ينبغى أن يظل فوق الجميع. وهو هتاف أشعرنى بالاستياء، حتى قلت إن أمثال صاحبنا هؤلاء يدفعون الناس إلى النفوز من الجيش والضيق به، لأننى تمنيت أن يظل الجيش مع الجميع وليس فوقهم.
ما ضاعف من قلقى أن الغلاة والمزايدين الذين تتزايد أعدادهم فى الوقت الراهن، خصوصا بعدما تواترت الروايات عن احتمال ترشيح الفريق السيسى نفسه لرئاسة الجمهورية، هؤلاء أشاعوا حتى فى أوساط المثقفين نوعا من الإرهاب أجده ضارا حتى بعلاقة القوات المسلحة بالمجتمع. ألاحظ ذلك فى الوسط الإعلامى، بعدما تكررت حالات منع المقالات التى تنتقد عسكرة المجتمع وتدعو إلى إبقاء القوات المسلحة بعيدا عن السياسة، لكى تتفرغ لمهمتها السامية فى الدفاع عن الوطن والحفاظ على عافيته وريادته.
فى هذا السياق لاحظت أن الدكتور مصطفى النجار، وهو ناشط سياسى من رموز ثورة 25 يناير، منع له مقال كان عنوانه «الجيش مؤسسة أم دولة»، فبثه على موقعه الإلكترونى. وذكر فى تقديمه أن الصحف التى رحبت بكتاباته امتنعت عن نشر هذا المقال بالذات، وحين قرأته وجدته منيرا ورصينا، ومسكونا بالغيرة على الوطن والجيش، وفيه من الصراحة والصدق ما نحن أحوج ما نكون إليه فى المرحلة الراهنة. لقد استغربت أن يمنع مقال من هذا القبيل فى حين تمتلئ الصحف بكتابات ونداءات المهللين والمصفقين الداعين إلى ترشيح وزير الدفاع رئيسا، ومن ثم توريط الجيش فى مستنقع السياسة وأوحالها.
أكرر أننا نريد أن نبادل الجيش الاحترام من منطلق الثقة والمحبة، ونرفض أن تكون علاقتنا به قائمة على الخضوع الناشئ عن النفاق أو الخوف. فخلوا بيننا وبينه أرجوكم، لكى يظل الجيش محاطا بقلوب المخلصين الشجعان، وليس بحناجر المنافقين والمنتفعين، ولكى يبقى فى خدمة الوطن وليس العكس.