فهمي هويدي
(1)
مصر فقدت تأثيرها حقا، حتى على المستوى الإقليمى، إلا أنها لم تفقد اهميتها، لذلك فهى موجودة فى الملفات وغائبة عن الطاولات، اعنى ان اللاعبين الكبار يناقشون أوضاعها فى سياق بحثهم لخرائط المنطقة العربية التى تضم عدة عناوين أخرى إلا انها لا تشارك فى تلك المناقشات، الامر الذى يسوغ لنا ان نقول انها حاضرة وغائبة فى الوقت نفسه.
هذه خلاصة خرجت بها من زيارة خاطفة قمت بها خارج مصر، التقيت خلالها أناسا ممن يعرفون أكثر مما ينبغى، وسمعت منهم كلاما لا أستطيع أن أكتمه. وقد قبلوا ان أنقل عنهم بعض ما قالوه شريطة ألا أذكر شيئا عن أشخاص القائلين أو مكان لقياهم.
ما فهمته ان ثمة قلقا فى الدوائر الغربية إزاء عدم استقرار الأوضاع فى مصر. وان المناقشات الدائرة حول مستقبل الإقليم لم تتوقف فى ست عواصم على الأقل هى بروكسل واسطنبول وجنيف ولندن وباريس وأديس أبابا (مقر منظمة الوحدة الأفريقية)، وقد تطرقت تلك المناقشات فى أحد الاجتماعات إلى الحديث عن بعض تفاصيل المستقبل فى مصر، وألقيت فى ذلك الاجتماع أسماء بعض المرشحين المدنيين لرئاسة الجمهورية.
فهمت أيضا ان الأطراف الحقوقية فى لندن وجنيف على الأقل معنية بتقصى حقائق النتائج التى ترتبت على فض الاعتصامات والتظاهرات فى القاهرة وبعض المدن الأخرى. وفى الوقت الراهن فإن الاتحاد الأوروبى تلقى حتى الآن قائمة بأسماء 1700 شخص قتلوا يوم 14 أغسطس أثناء فض اعتصامى رابعة والنهضة، وهو رقم مرشح للزيادة، كما ان هناك تقريرا آخر أمام تلك الأطراف الحقوقية يتعلق بنوعية الأسلحة التى استخدمت فى فض الاعتصامات، تقوم بدراسته مجموعة من كبار المحامين فى إنجلترا. وهى المجموعة ذاتها التى لاحقت المسئولين عن الجرائم التى شهدتها الجزائر فى تسعينيات القرن الماضى، خلال الصدام الدموى الذى حدث بين الجيش وبين جبهة الإنقاذ، جراء إلغاء الجيش لنتائج الانتخابات التى فازت فيها الجبهة.
(2)
فيما خص الإقليم سمعت الملاحظات التالية:
• ان موازين القوى تغيرت فى العالم العربى، بحيث أصبحت السعودية هى اللاعب الأساسى فى المشرق، وباتت الجزائر لاعبا أساسيا فى المغرب. وقد أصبحت السعودية تقود محورا فى المشرق يضم دولة الإمارات والأردن والكويت بدرجة أخرى، وباتت تلعب دورا أساسيا فى مقاومة النظام السورى كما ان دورها ليس خافيا فى لبنان ولا فى دعم أهل السنة فى العراق. ومع ذلك فإن أوضاع الحكم الداخلية ليست مستقرة تماما، لان ثمة لغطا فى دوائر السلطة حول ترتيبات مرحلة ما بعد الملك عبدالله (89 عاما) الذى اعتلت صحته، إضافة إلى أعراض المرض التى ظهرت على الأمير سلمان ولى العهد (77 عاما)، وهو ما فتح الأبواب لتجاذب مكتوم بين أجنحة الأسرة المالكة.
فى بلاد المغرب يتنامى دور الجزائر، التى لم تسلم من القلق الداخلى بسبب اتجاه الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة (75 عاما) إلى الترشح لولاية رابعة. تجلى ذلك فى الدور الذى يحاول ان يلعبه للوساطة فى تونس، حين استقبل أحد السياسيين المعارضين القائد السبسى مؤسس حركة نداء تونس والشيخ راشد الغنوشى زعيم حركة النهضة فى مسعى للوساطة بينهما. وهو ما تزامن مع اجتماعات لمسئولى الأجهزة الأمنية شهدتها العاصمة الجزائرية لترتيب الأوضاع فى منطقة المغرب، خصوصا فى ليبيا.
• الاجتماع الذى عقد فى الجزائر شارك فيه ممثلون عن أجهزة الاستخبارات فى السعودية والإمارات، نظرا لأن الدولتين تحاولان لعب أدوار بصياغات مختلفة فى بعض دول المنطقة، خصوصا تونس وليبيا. وربما كانت تلك هى المرة الأولى التى تسعى فيها الدولتان إلى التأثير فى الخرائط السياسية بالمغرب. وقد فهم ان الهدف من ذلك هو إضعاف دور التيارات الإسلامية التى برزت فى هذين البلدين فى دائرة القرار السياسى.
• تنفس الجميع الصعداء لأن القصف العسكرى لسوريا لم يتم، رغم ان بعض الدول العربية لم يسعدها ذلك، بالتالى فإن سيناريو ما بعد القصف الذى أقلق الجيران تأجل تنفيذه على الأقل. إلا ان الدول الأوروبية لاتزال تعبر عن قلقها إزاء توافد عناصر من الشيعة للدفاع عن نظام الأسد. وهؤلاء ليسوا مقصورين على حزب الله والمقاتلين العراقيين، وانما هناك متطوعون من دول أخرى مثل باكستان وأفعانستان والهند. كما ان هناك متطوعين من الحوثيين فى اليمن. وهناك تفكير لاستصدار قرار من مجلس الأمن يطالب بإخراج المقاتلين الأجانب من الأراضى السورية، قبل أى تسوية منتظرة.
(3)
إذا جاز لنا ان نقول إن هذا الذى ذكرته يدخل فى صلب اهتمامات الأطراف الإقليمية التى يمكن تشبيهها بأندية الدرجة الثانية، فإن اللاعبين الكبار من أندية الدرجة الأولى لهم اهتمامات أخرى أهم وأعمق، ما يهمنا من تلك الاهتمامات أمران لا ثالث لهما هما: الكشف عن مخزون السلاح الكيماوى الذى تملكه سوريا، ثم الاتصال الهاتفى الذى تم بين الرئيسين الأمريكى باراك أواما والإيرانى حسن روحانى. والأول يحل مشكلة لإسرائيل التى ظل يؤرقها طوال السنوات الأخيرة كمياوى سوريا والبرنامج النووى الإيرانى. وبالتخلص من الكيماوى تفقد سوريا أهم سلاح استراتيجى تملكه، وفى الوقت نفسه ينزاح نصف الهم الإسرائيلى، ويبقى النصف الثانى المتمثل فى النووى الإيرانى الذى هو محل مساومة الآن.
فى الوقت نفسه، فإن تفاهم واشنطن وموسكو على التخلص من الكيماوى السورى فاجأ الأطراف العربية (المخابرات السعودية خاصة) التى راهنت على توجيه الضربة العسكرية إلى سوريا، ووطدت نفسها على التعامل مع مرحلة ما بعد القصف.
أصداء الاتصال الهاتفى بين الرئيسين الأمريكى والإيرانى أقوى وأبعد بكثير مما يبدو على السطح. ذلك انه قلب كثيرا من المعادلات المستقرة فى المنطقة. فدول الخليج التى كانت تراهن دائما على توتر العلاقات وتضارب المصالح بين طهران وواشنطن، أصبحت فى حيرة من أمرها، حيث باتت تشعر بأنها صارت فى الموقف الأضعف أمام تنامى الدور الإقليمى والدولى لإيران.
لا يقف صدى التفاهم الأمريكى الإيرانى عند حدود الخليج، وكونه فتح الباب لكى تصبح إيران طرفا أكثر فعالية فى الشأن الإقليمى (لاحظ انها موجودة فى سوريا والعراق ولبنان واليمن). وانما أدى ذلك إلى تراجع نسبى فى الدور التركى الذى لم يعد يحظى بالحماس الأمريكى منذ تولى السلطة حزب العدالة والتنمية ورئاسة عبدالله جول وطيب أردوغان. لذلك فإنه إذا كان العام الماضى قد شهد حضورا قويا لتركيا فى العالم العربى (باستثناء سوريا) فإن إيران بصدد احتلال تلك المكانة مع نهاية العام الحالى خصوصا ان الإدارة الأمريكية أصبحت تتحدث عن إيران فى المحافل الدولية هذه الأيام بحسبانها دولة أصبحت معتدلة ومنفتحة على الآخرين. ومن الواضح ان طهران حريصة على تأكيد هذه الصورة، وهو ما كان ملاحظا فى خطوط الاتصال التى انفتحت مؤخرا بين أنقرة وطهران، وفى تجدد الاتصالات بين إيران وحركة حماس بعد فتور نسبى استمر طوال العامين الأخيرين. وقد عقد اجتماع لهذا الغرض بأنقرة فى نهاية الأسبوع الماضى بين السيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسى لحركة حماس وبين أحد أهم المسئولين الإيرانيين عن ملف المشرق العربى. وتلك هى المرة الأولى التى عقد فيها مثل ذلك الاجتماع الذى كانت طهران ترفض عقده خارج أراضيها.
(4)
إلى الآن تبدو إسرائيل هى الفائز الأكبر من التحولات الجارية، حيث يعد تخلصها من الكيماوى السورى انجازا كبيرا أهدى إليها بالمجان. الأمر الذى سيمكنها من التفرغ للتعامل مع النووى الإيرانى. ومن آيات فوزها أيضا ان قضية فلسطين لم تعد تذكر فى الحوارات والمداولات التى تجرى، وربما لاحظت اننى لم أشر إليها فى عرض التفاعلات الحاصلة فى الإقليم أو خارجه، وإذا أضفت إلى ذلك مؤشرات التعثر أو التراجع الحاصل فى دول الربيع العربى، فإن تلك العوامل فى مجموعها توفر لإسرائيل أفضل الأجواء لممارسة ما يمكن ان يسمى بالاسترخاء الاستراتيجى، الذى لا يعزز شعورها بالاطمئنان فحسب، وإنما يسمح لها بأن تمارس خطط الاستيطان والتهويد وابتلاع الأراضى الفلسطينية دون عائق يذكر.
من ناحية أخرى، فإننا نلاحظ ان غياب التأثير ليس مقصورا على مصر وحدها، لكنه انصرف إلى العالم العربى بالقدر ذاته. كأنما حين غابت مصر غاب العرب، وأصبح أداء الاخيرين مقصورا على اللعب مع أندية «الدرجة الثانية» فى جنبات العالم العربى. وفى الوقت الذى تلوح فيه مؤشرات تصاعد أسهم إيران فإن تركيا تمر الآن بمرحلة مراجعة ونقد للذات، ليس فقط للحفاظ على تماسكها فى مواجهة العواصف التى باتت تهب عليها من كل صوب، ولكن أيضا لأنها مقبلة على انتخابات حاسمة بلدية ورئاسية فى العام المقبل.
ما يبعث على الحيرة والدهشة فى آن، ان بعض الأطراف العربية وهى ترى التحولات التى تتفاعل فى محيطها لم يخطر لها ان تعيد النظر فى أوضاعها لكى تستعيد دورها وعافيتها، ولكنها راحت تتطلع إلى الولايات المتحدة فى محاولة من جانبها لمد الجسور مع الجمهوريين فى واشنطن للضغط على الرئيس أوباما لتغيير سياساته تجاهها. وذلك إذا صح فإنه يعنى ان تلك أطراف لا ينبغى المراهنة عليها ولا أمل فيها فى الأجل المنظور على الأقل.