فهمي هويدي
ى يوم 30 يونيو كتبت مصر فصلا مثيرا فى حوليات زمن الفرجة، وقدمت دليلا ناصعا على ان الصورة لم تعد تشكل الإدراك فحسب، وانما صارت تصنع التاريخ أيضا. وزمن الفرجة كما قد يتذكر البعض عنوان شغل بعض الباحثين الغربيين فى السنوات الأخيرة، التى حققت فيها ثورة الاتصال قفزاتها الكبيرة، بحيث استطاعت ان تحكم سيطرتها على الادراك العام، على نحو جعله يتشكل فى ضوء ما يتلقاه السمع والبصر، وليس تبعا لمقتضى العقل. وكنت قد تعرضت للموضوع فى مقالة نشرت فى 18 ديسمبر من العام الماضى تحت عنوان: الصراع فى زمن الفرجة. أشرت فى ثناياه إلى كتاب «حضارة الفرجة» الذى أصدره أحد المثقفين فى بيرو بأمريكا اللاتينية (ماريو فارجاس يوسا)، وشرح فيه فكرته فى ان المجتمع الحديث أصبح اسير أدوات ثورة الاتصال، التى باتت قادرة على صنع الرموز وإيداع القيم وإعادة تشكيل حقائق الحياة، الأمر الذى أدى إلى تراجع السمع والبصر وتراجع دور العقل حتى أصبحت قيمة المفكر تقاس بمقدار مسايرته لهذه الموضة، التى تحوله فى نهاية المطاف إلى مهرج، على حد تعبيره.
ما حدث فى 30 يونيو والتداعيات التى ترتبت عليه قدم دليلا جديدا على قوة حضارة الفرجة وسلطانها. إذ حين خرجت الحشود فى ذلك اليوم ملبية نداء حركة «تمرد» الذى اصطفت حوله المعارضة، وتولت تسويقه القنوات الفضائية طوال الأسابيع التى سبقت ذلك التاريخ، فإن الكاميرات تابعت الحشود وحرصت على تصوير مسيراتها، تحت الاستعانة بطائرات القوات المسلحة لالتقاط الصور من الجو. وتعددت الروايات التى قدرت أعداد الخارجين بنحو 14 مليونا مرة و20 مليونا مرة ثانية. وأوصل البعض الرقم إلى أكثر من ثلاثين مليونا. وهذه التقديرات المستندة إلى كثافة الحشود سوغت لكثيرين ان يقولوا ان مصر كلها خرجت مطالبة برحيل الدكتور محمد مرسى. تحدثت بعض التقارير الصحفية عن ان ما شهدته مصر يومذاك كان الاحتجاجات الأكبر فى تاريخ البشرية. وحين دخلت القوات المسلحة على الخط فإن البيان الذى أصدرته اتكأ على هذه الخلفية وقال ان شعب مصر نادى بصوته الجهورى وملايينه التى خرجت إلى الشوارع، وان كل ما فعلته تلك القوات انها لبت النداء، حيث ما كان للجيش ان يخذل الشعب.
حين تراجع الانفعال وذهبت السكرة ظهرت أصوات دعت إلى إعادة النظر فى تلك الانطباعات. وبث موقع الـ«بى بى سى» فى 16/7 تقريرا ناقش الأرقام التى تم تداولها فى 30 يونيو والأيام التى أعقبته. وكان الشىء الوحيد الذى لم تراجعه ان الذى جرى فى مصر هو انقلاب عسكرى حظى بدعم شعبى، فى نفس الوقت، فإنها اعتبرت القول بأن الاحتجاجات هى الأكبر فى تاريخ البشرية من قبيل المزاعم التى يتعذر التسليم بها، واستندت إلى آراء عدد من الخبراء الذين قرروا ان ثمة تلاعبا واضحا ومفهوما فى الأرقام، لأن من الطبيعى فى هذه الحالة ان يؤكد أصحاب المصلحة على ان الجماهير والميادين كلها تدعمهم. ولذلك فإنه يعمدون إلى المبالغة فى تقدير مؤيديهم. من ثم فإن إحصاء الأرقام أصبح مرتبطا بالدعاية وتسجيل النقاط وليس الهدف منه الوصول إلى الحقيقة ــ وفى ثنايا التقرير ذكرت الـ«بى بى سى» ان طاقة استيعاب ميدان التحرير لا تكاد تتجاوز 500 ألف شخص.
بالتزامن مع ذلك تلقيت فى بريدى الإلكترونى خلاصة دراسة أجراها فى مصر خبير الاتصالات والإلكترونيات فى مصر المهندس أمجد المنذر، الذى انزل إسقاطا لميدان التحرير والشوارع المتفرعة عنه، وذلك عن طريق التطبيق المعروف بـ«جوجل إيرث». ثم قام بقياس مساحة الميدان وجميع الشوارع التى ظهرت مليئة بالبشر فى فيلم مخرج السينما وعضو جبهة الإنقاذ، الذى صوره مستعينا فى ذلك بإحدى طائرات القوات المسلحة. وجد صاحبنا ان مساحة الميدان نحو 50 ألف متر مربع، وهى تعادل تقريبا مجموع مساحات الشوارع المتفرعة عنه حتى كوبرى قصر النيل، بما يعنى ان مجمل المساحة التى تم تصويرها قرابة مائة ألف متر مربع. وقال فى تحليله انه مع افتراض انه لا يمكن ان يجتمع أكثر من أربعة أشخاص فى المتر المربع الواحد، ومع افتراض ان الكثافة كانت متحققة فى جميع الأماكن، فذلك يعنى ان الذين خرجوا فى القاهرة يوم 30/6 لا يمكن ان يتجاوز 400 ألف شخص. ومع افتراض ان الذين تظاهروا فى المحافظات الأخرى بنفس العدد أو أكثر قليلا، فمعنى ذلك ان مجموع الذين خرجوا فى ذلك اليوم لا يمكن ان يتجاوز عددهم مليون شخص أو أكثر قليلا. ورغم ان تلك هى الحقيقة العلمية إلا ان الصورة جعلتهم 30 مليونا. وذلك أكبر انتصار لزمن الفرجة الذى كان يمكن أن نخرج من متاهته لو أتيح لنا أن نحسم الأمر عبر الصناديق
نقلاً عن جريدة "الشروق "