فهمي هويدي
لا الذين تظاهروا فى ميدان التحرير ضد الشريعة، ولا الذين يتظاهرون اليوم أمام جامعة القاهرة مع الاستبداد. لذلك تمنيت أن يضبط الانفعال الذى يخيم على خطاب الفريقين، لأن لدينا ما يكفينا من الالتباسات والتشوهات، التى تصب كلها فى مجرى تعميق الشروخ وإعادة صياغة القوى السياسية وأرجو ألا يدفعنا ذلك إلى السير على درب الخبرة اللبنانية التى قسمت البلدين إلى فريقين للموالات والمعارضة. أحدهما ينتمى إلى تجمع 14 آذار والثانى إلى جماعة 8 آذار، فى تطوير للقسمة السابقة التى فصلت بيروت الشرقية عن بيروت الغربية.
سنحتاج إلى وقت أطول، وربما أيضا إلى قدر أكبر من هدوء الأعصاب، لكى نتعرف على جذور الانقسام الراهن، وإلى أى مدى أسهمت فكرة قسمة القوى السياسية إلى مدنية فى مقابل أخرى دينية. فى تشويه الساحة السياسية والتشويش على مسيرة الثورة. وكنت قد حذرت فى وقت مبكر من خطورة اختزال المشهد فى صراع القوتين، ودعوت إلى استبعاد فكرة صراع الهويات والتركيز على التمايزات السياسية بين القوى الوطنية والديمقراطية، لكن الرياح أتت بما لا نشتهى، حتى وقع الجميع فى فخ الانفعال الغاضب والتقاطع العارم الذى أوصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن.
ما تمنيت أن يرفع المؤيدون للرئىس مرسى اليوم شعار الدفاع عن الشريعة والشرعية، الذى أشم فيه رائحة الضغوط السلفية، التى تصر على الزج بمصطلح الشريعة بمناسبة وبغير مناسبة، حتى تكاد تقسم العالم إلى فريقين أحدهما مع الشريعة والآخر ضدها. وأكاد أزعم أن الفريقين الأساسيين اللذين يخرجان للتظاهر اليوم أمام جامعة القاهرة يتوزعان على كلمة العنوان، فالإخوان خرجوا للدفاع عن الشرعية ممثلة فى الرئيس محمد مرسى، والسلفيون خرجوا للدفاع عن الشريعة، فى إيحاء غير صحى بأن المعارضين الذين فى «التحرير» ضد الشريعة، وهذا تكييف مغلوط وخطر فى نفس الوقت. هو مغلوط لأن الذى فجر الغضب هو الإعلان الدستورى الأخير الذى أصدره الرئيس مرسى، ولم يكن له علاقة بموضوع الشريعة، ثم إ ن الأغلبية الساحقة من الذين شاركوا فى المظاهرات الرافضة ليس لديها أى تحفظ أو خلاف على النص على الشريعة الوارد فى دستور عام 71 أو المشروع الذى تم إقراره. وهو خطر لأن هذه الصياغة تنقل الصراع إلى مستوى الخلاف حول الهوية الدينية، وذلك منزلق يفتح الباب لشرور كثيرة، ناهيك عن أنه يبدو تحريضيا ومستنفرا للدفاع عن «شرع الله». وهو القضية المفتعلة التى أقحمها السلفيون على مجرى الحوار دون مبرر.
للاختزال خطورته أيضا فى تقييم موقف الطرفين. لأنه لا يسمح برؤية التمايز فى الأهداف أو التمايز فى طبيعة العناصر التى تظاهرت فى المدن المصرية وميادينها. صحيح أن أهم رسالة تلقيناها من المظاهرات والاحتجاجات التى عبرت عنها مختلف الأطراف، أن المجتمع المصرى لايزال محتفظا بحيويته وجرأته، وأن المارد خرج من «القمقم» ولا يمكن أن يعود إليه مرة أخرى. بالتالى فإن الكلام عن الفرعون والرئيس الإله صاحب السلطة المطلقة، صار افتراضا فيه من التحذير من احتمالات المستقبل أكثر ما فيه من تحرير الحاصل على الأرض.
نحن لم نعرف على وجه الدقة من الذى خرج مطالبا بإسقاط الرئيس محمد مرسى ولا من الذى طالب بسحب الإعلان الدستورى وإلغائه، ومن الذى كان معترضا على بعض مواد الإعلان الدستورى دون الأخرى.
كذلك فإننا لم نعرف وسط الهرج السائد من الذى خرج خائفا على الديمقراطية. أو خرج خائفا من الديمقراطية، ومن الذى خرج خائفا من الإخوان والسلفيين أو كارها للثورة. كما أننا لم نعرف من من هؤلاء خرج غيورا على القضاء. ومن خرج راكبا للموجة وساعيا للشهرة. أو من خرج لأنه ضائق بأعباء الحياة ويريد أن ينفس عن غضبه ويرفع صوته عاليا فى الفضاء عله يجد من يسمعه. وغير هؤلاء وهؤلاء فإننا لم نعرف نصيب العاطلين والبلطجية المتطوعين أو المجندين الذين حملوا قنابل المولوتوف والخرطوش.
هذه المعالم التى تساعدنا على أن نفهم المشهد ونتعامل معه برصانة ومسئولية، لم تتضح للأسف الشديد. وكانت النتيجة أن الطرفين لم يفهم كل منهما الآخر ولم يسمعه وفى ظل التباعد والتقاطع فإن سوء الظن ظل مخيما. وتكفلت بعض وسائل الإعلام بتأجيج الحريق وتوسيع نطاقه، وتحولت الساحة إلى حلبة للصراع، كل طرف يحاول أن يلوى ذراع الآخر ويقهره، وحين يحدث ذلك فينبغى ألا نتوقع أن تتقدم سفينة الوطن. وإنما يلوح فى الأفق سيناريو الغرق الذى وجدنا من يهلل له ويتمناه، وبدا أننا بحاجة إلى معجزة لكى نتجنبه.
نقلاً عن جريدة "الشروق"