فهمي هويدي
مذبحة القضاة عادت تطل علينا فى عناوين الصحف المصرية بوجه مختلف. فالمصطلح موصول بخبرة اشتباك القضاة مع السلطة، لكنه هذه المرة يلاحق معركة القضاة مع القضاة. فخلال الأيام الأخيرة قرأنا عن إحالة المستشار زكريا عبدالعزيز رئيس استئناف القاهرة ورئيس نادى القضاة السابق إلى الصلاحية لتأديبه وعزله. وأمس نشر ان النائب العام تلقى توصية بتحريك الدعوى الجنائية ضده باعتباره أحد المتهمين فى اقتحام مقر جهاز أمن الدولة أثناء ثورة يناير عام ٢٠١١. وهذه الخطوة من توابع المذبحة التى وقعت قبل أيام قليلة (فى ١٤ مارس)، حين قررت لجنة الصلاحية والتأديب بوزارة العدل عزل أربعين من أفضل وأنزه قضاة مصر من وظائفهم، بعد أن نسب إليهم الاشتغال بالسياسة وتأييد الإخوان، وعقب محاكمة صورية من أغرب ما شهدته ساحات القضاء، حتى عدت سابقة لا مثيل لها فى تاريخ القضاء المصرى.
لا مبرر للاستباق فيما خص مصير قضية المستشار زكريا عبدالعزيز، لكن الصورة ستكون أوضح إذا ما تعرفنا على موقف القضاة الذين تم عزلهم (عدد ٤١ وهناك ٢٥ آخرون تمت تبرئتهم). ذلك أن الملاحظة الأساسية على أولئك القضاة أنهم جميعا كانوا ممن وقعوا على بيان تأييد الثورة الذى صدر فى ٣١ يناير عام ٢٠١١. وبعض هؤلاء ممن شاركوا فى أحداث ٢٠٠٥ التى قادها القضاة تضامنا مع زملائهم الذين فصلوا جراء اعتراضهم على تزوير الانتخابات فيما وصف آنذاك بأنه «مذبحة» ومنهم من أعلن اعتصامه لأجل ذلك. أما البعض الآخر فهم ممن تحملوا مسئوليات بحكم اختصاصهم أثناء حكم الدكتور محمد مرسى.
مما له دلالته فى هذا الصدد أن حكم العزل انتقى كل قاضٍ كان له دور فى التضامن مع المفصولين جراء احتجاجهم على تزوير الانتخابات، الأمر الذى تفوح منه رائحة الإصرار على معاقبة الذين قاوموا التزوير قبل الثورة. من هؤلاء ستة من أعضاء مجلس إدارة نادى القضاة آنذاك هم: وكيل النادى المستشار محمد ناجى دربالة والمتحدث الإعلامى المستشار أحمد محمد صابر، والمستشارون: أسامة ربيع وأمير السيد عوض وضياء حسنين وحمدى وفيق زين العابدين. كما انتقى الحكم ثمانية قضاة ممن شاركوا فى اعتصام عام ٢٠٠٥، هم المستشارون: مصطفى أنور أبوزيد ــ إسلام محمد سامى علم الدين ــ محمد عزمى الطنبولى ــ هانى صلاح عبدالواحد ــ محمد أنور متولى ــ عمرو شهير ربيع ــ محمد وفيق زين العابدين ــ محمد أحمد سليمان.
حرص الحكم أيضا على عزل كل من تولى مسئولية أثناء حكم الدكتور مرسى. وهم المستشارون الستة التالية أسماؤهم: محمد ناجى دربالة عضو الجمعية التأسيسية لوضع دستور ٢٠١٢ ــ محمود محيى الدين مساعد وزير العدل لشئون التفتيش القضائى ــ مصطفى أنور أبوزيد نائب وزير العدل للكسب غير المشروع ــ أحمد سليمان وزير العدل السابق ــ حسن ياسين حسن سليمان النائب العام السابق ــ محمد عزمى الطنبولى أمين عام لجنة الاستفتاء على دستور ٢٠١٢.
الحلقات التى سبقت صدور قرارات العزل لا توحى بالاطمئنان، وتثير عديدا من التساؤلات حول الدوافع التى حركت المحقق ووزير العدل ومجلس التأديب بل ورئاسة نادى القضاة. ذلك ان الشكوى الأصلية ضد أولئك القضاة قدمها النادى، وبعد ساعتين من تقديمها فصل كل القضاة الذين وجه إليهم الاتهام من عضوية النادى. وبعد ٤٨ ساعة تم انتداب قاضى التحقيق معهم. أما محاكمة ٦٥ قاضيا فقد تمت فى خمس جلسات بواقع ٥ ساعات، وخلال المحاكمة رفض القاضى إثبات الطلبات، كما رفض استدعاء ضابط الأمن الوطنى الذى يفترض أنه أعد التقرير الذى تم الاستناد إليه فى اتهامهم، بدعوى أنه مسافر للخارج، ورغم أن القضاة لم يقدم أى منهم دفاعا أو مذكرة، فإن الحكم صدر استنادا إلى التحريات المطعون عليها بالتزوير. وتم ذلك فى غيبة الخصوم وفى جلسة سرية لم يحدد موعد انعقادها. إلى غير ذلك من الشواهد والقرائن المقلقة التى تبطل الحكم. وهى الملابسات التى دعت المستشار أحمد مكى وزيرالعدل الأسبق إلى القول بأن القضاء أصبح يهدد منظومة العدل فى مصر. وهو ذات المعنى الذى عبر عنه المستشار أحمد سليمان الذى كان قد شغل بدوره منصب وزير العدل حين قال إن القضاء بهذه الصورة أصبح غير جدير بالثقة. وهو أمر له أثره السلبى الخطير على المستقبل.
لم يقف الأمر ضد حد العزل، ولكنه تجاوزه إلى التنكيل بنحو ١٨ قاضيا منهم لم يبلغوا مرحلة استحقاق المعاش، فحرموا استحقاقاتهم المالية، كما حرموا من الرعاية الصحية، فضلا عن أنهم منعوا من السفر إلى الخارج. فى حين أن هناك شكوكا فى قبول تسجيلهم بنقابة المحامين، حين قيل بأن ثمة توجيهات تمنع ذلك.
إن هناك سيل من الأسئلة يطرحها المشهد. بعضها يتعلق بالدوافع التى تتراوح بين الكيد والانتقام وبين حسابات المصالح فى انتخابات نادى القضاة. ثمة أسئلة أخرى تتعلق بمصير هؤلاء الذين سدت الأبواب فى وجوههم وجرى التنكيل بهم إلى حد محاربتهم فى أرزاقهم. ثم هناك أسئلة تخص دور السياسة فى كل ما جرى والموقف من ثورة يناير ٢٠١١، ومصير منظومة العدل فى ظل هذه الظروف. لست أملك إجابة عن تلك الأسئلة، لأن غيرى هو المكلف بالإجابة، إلا أن ما أعرفه أن أمرا بهذه الخطورة لا ينبغى أن يعالج بالصمت، ولا ينبغى أن يترك لكى تحسمه حسابات الكيد والانتقام والإرهاب المستتر.