فهمي هويدي
تمنيت أن يكون لى صوت فى بريطانيا لكى أعطيه للفتاة الاسكتلندية ماهيرى بلاك، التى رشحت نفسها لعضوية مجلس العموم وهى طالبة جامعية فى العشرين من عمرها. بل دفعتها الثقة والشجاعة إلى تحدى مرشح حزب العمال ووزير الخارجية فى حكومة الظل دوجلاس الكساندر.
وليس ذلك أغرب ما فى الأمر، لان ما هو أكثر إثارة للدهشة ان المجتمع شجع الفتاة، حتى بينت الاستطلاعات التى سبقت الانتخابات انها متفوقة على «منافسها» مرشح حزب العمال بما لا يقل عن ١١ نقطة. ولان الانتخابات أجريت يوم الخميس ٧ أبريل، ولم تكن ظروف سفرى إلى الخارج من متابعة نتائج الفرز والتصويت فى اسكتلندا، فاننى لم استطع ان أتعرف على النتيجة، مع ذلك فالقصة تظل جديرة بالمتابعة، لأن ما همَّنى فى الموضع أكثر من فوز الفتاة الجامعية من عدمه هو ظاهرة تشجيع الأجيال الجديدة على الانخراط فى السياسة ودفعهم فى سن مبكرة إلى الانشغال بالشأن العام. وهو ما نعتبره فى بلادنا من العجائب والمنكرات التى تورد من يفكر فيها موارد الشبهة والاتهام. ذلك ان الطالب الجامعى عندنا إذا لم يكن مسموحا له بالترشح لعضوية اتحاد الطلبة فى كليته (الانتخابات ألغيت هذا العام)، فإن ترشحه لعضوية البرلمان تعد بالنسبة إليه ضربا من الخيال. ولا ننسى أن ذلك صار أملا صعب المنال بالنسبة للسياسيين والنشطاء الكبار فى مصر بعد تأجيل إجراء الانتخابات البرلمانية عدة مرات.
قصة الفتاة مهيرى بلاك استوقفتنى فى تقرير عن عام «العجائب السياسية» نشرته جريدة «الحياة» اللندنية (فى ٣٠/٤)، ذكر انها إذا فازت فستكون أصغر نائب يدخل البرلمان البريطانى منذ عام ١٦٦٧. ذلك انه سبقها إلى ذلك صبى كان عمره ١٣ سنة ونصفا اسمه كريستوفر مونك. كان قد منح لقب فارس آنذاك وصار عضوا فى مجلس العموم قبل ان ينتقل إلى عضوية مجلس اللوردات، بعدما صار «دوقا» وحل محل والده الذى توفى سنة ١٦٧٠.
أشار التقرير إلى أن حالة الفتاة الجامعية تسلط الضوء على شرائح الشباب والشابات فى بريطانيا الذين ينخرطون منذ نعومة أظافرهم فى الحياة الحزبية. ويتدرجون فيها ليصبحوا مع الوقت جزءا من عملية صنع القرار فى البلاد. أو على الأقل طرفا أساسيا فى الضغوط من أجل توجيه السياسات الحكمية فى مسار معين (إذا كانوا فى المعارضة).
تهيئة الأجيال الجديدة لهذه العملية تسهم فيها السياسة التعليمية التى لا توجه التلاميذ للانخراط فى حزب دون آخر، ولكنها تحرص على ان تشرح لهم مبادئ الديمقراطية والتغيير السياسى الذى يحدث من خلال الانتخابات وأهمية الحصول على رضى الناخبين للفوز بحق تمثيلهم فى مجلس العموم. وهذه مهمة تشارك فيها بعض الجمعيات الأهلية التى نحاول اقناع الصغار بالانخراط فى السياسة وبالمشاركة فى تقرير مستقبلهم بأنفسهم، عندما يكبرون ويصيرون فى سن الاقتراع (١٨ سنة).
قبل إجراء الانتخابات الأخيرة أصدرت شبكة الأمهات (مامزنت) نصائح للأهل لجذب أطفالهم نحو السياسة. ودعت إلى تحديد القضايا التى تهمهم، مثل أخذ رأيهم فى الموعد الذى تغلق فيه أبواب الحديقة العامة فى منطقتهم (لان ذلك يؤثر على ساعات اللعب التى يقضونها فيها)، وسؤالهم عن رأيهم فى الواجبات المدرسية التى تعطى لهم لانجازها فى البيت، وعند طبيعة الدروس التى يتم تلقينهم اياها فى الصف الدراسى. وخاطبت الشكبة الآباء والأمهات قائلة «حاولوا أن تعرفوا بالاشياء التى تهم طفلكم وحاولوا أن تتحدثوا معه فى الأمور المحلية والوطنية، فربما ايقظتم بذلك ناشطا صغيرا فى طفلكم».
لا ينطلق توجيه شبكة «مامزنت» لتنشئة جيل الأطفال سياسيا من فراغ ولأن هناك كتبا مخصصة للتوعية السياسية لصغار السن، مثل كتاب «الانتخابات»، وهو عبارة عن صفحات مصورة مع كلمات بسيطة تشرح لمن هم دون السابعة من العمر مفهوم الديمقراطية والتصويت والانتخابات.
وإضافة إلى الصحف الكبرى التى تصدر ملاحق مخصصة للأطفال، هناك صحف سياسية مخصصة للصغار، مثل صحيفة «فيرست نيوز» الأسبوعية، التى تخاطب الأعمار بين ٧ و١٤ سنة، وتنقل إليهم أخبارا موجزة عن الأوضاع الحالية فى بريطانيا والعالم. إضافة إلى تقديم معجم يشرح الكلمات التى يمكن ان تكون صعبة الفهم بالنسبة للأطفال.
وبحسب «مامزنت» فانه قد يتشجع الأطفال على الانخراط فى النشاط السياسى إذا ما أخذهم أهلهم فى يوم عطلة إلى مقر البرلمان فى وستمنستر بوسط لندن، حيث ساعة «بيج بن» الشهيرة، يتاح للزوار بسهولة دخول البرلمان والتجول فى أرجائه والاطلاع على تاريخه العريق، ولهم ان يحضروا جلساته وان يلتقوا بسياسيين بارزين تهتم بهم وسائل الإعلام، الأمر الذى قد يشجعهم على الاهتمام بالسياسة. كما ان موقع البرلمان البريطانى على شبكة الإنترنت يتضمن لعبة تشجع الأطفال على الاشتغال بالسياسة. إذ يسمح لمن هم فوق ١٣ سنة بأن يشاركوا من خلال حسابهم على فيس بوك فى لعبة باسم «ماى يو كى» التى تتضمن توليهم منصب رئيس الوزراء ليوم واحد، يعينون خلاله أصدقاءهم وزراء فى حكومتهم، ويختارون السياسات التى يعتزمون اتخاذها خلال السنوات الخمس من توليهم السلطة (انتخابات مجلس العموم تجرى كل ٥ سنوات).
طول الوقت، وأنا أتابع قصة ماهيرى بلاك وتحريض الأطفال الإنجليز على الانشغال بالسياسة، كانت حاضرة فى ذهنى قصة طالب الثانونى محمود محمد (١٩ سنة) الذى كانت جريمته أنه ارتدى قميصا كتب عليه عبارة «وطن بلا تعذيب»، حيث قلت انه لو كان فى بريطانيا لانتظره مستقبل واعد وكبير، لكنه يقبع الآن فى السجن منذ نحو ٤٥٠ يوما بلا تحقيق ولا قضية، ولا استبعد ان يكون قد كره السياسة وأهلها، ولم يعد يحلم بأكثر من أن يعود إلى أحضان أمه وان يعوض ما فاته فى مدرسته.