صدر فى القاهرة خلال الأسبوع الماضى تقريران مهمان لم ينالا ما يستحقانه من اهتمام على الصعيدين السياسى والإعلامى. الأول تعلق بمعالم المسار الديمقراطى فى مصر طوال عام ٢٠١٤. والثانى اهتم برصد وقائع التعذيب التى تعرض لها النشطاء خلال شهر فبراير الذى غادرنا قبل أيام قليلة.
أهمية التقريرين تكمن فى أنهما صادران عن مؤسستين مصريتين حقوقيتين مستقلتين، تتمتعان بدرجة عالية من الصدقية والاحترام. ثم إن الذين أعدوهما هم مجموعة من الباحثين الوطنيين الشجعان، الذين نذروا أنفسهم للدفاع عن كرامة وإنسانية المواطن المصرى، بصرف النظر عن هويته أو ما هو منسوب إليه.
لقد ذكرت أن التقريرين يستحقان الاهتمام، وعنيت بذلك أولا أن يتم التثبت من دقة المعلومات التى وردت فيهما، وثانيا أن يطرح ما يتم التحقق منه على الرأى العام إعمالا للشفافية من ناحية، لإطلاع المجتمع على ما يجرى فى محيطه. ومن ناحية أخرى لكى يوضع الأمر أمام الجهات المعنية فى الدولة وكذلك المنظمات الحقوقية، لكى يتحمل كل طرف مسئوليته السياسية والقانونية والأخلاقية.
تقرير المسار الديمقراطى هو الأول من نوعه الذى يفترض أن تصدره كل سنة مبادرة «محامون من أجل الديمقراطية»، بعدما أطلقته الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، التى يديرها الحقوقى المعروف الأستاذ جمال عيد. وقد قام بعملية الرصد والمتابعة تسعة من المحامين ذوى الخبرة، وعرضوا نتائج جهدهم فى ٧٥ صفحة سجلوا فيها أبرز الممارسات ذات الصلة بالديمقراطية، سواء تمثلت فى احتجاجات أو محاكمات أو قوانين وإجراءات. ونظرا لتعدد تلك الممارسات فإن معدِّى التقرير اعتبروه عاما «معتما ومتعثرا» من الناحية الحقوقية.
من الخلاصات المهمة التى تم رصدها ما يلى:
• إجمالى الفاعليات الاحتجاجية التى وقعت خلال عام ٢٠١٤ وصل إلى ١٥١٥، موزعة كالتالى: ٨٢١ مظاهرة للإخوان وتحالف دعم الشرعية ــ ٢٨٧ احتجاجا اجتماعيا وعماليا ــ ١٠٠ احتجاج للقوى الديمقراطية المدنية ــ ٣٠٧ مظاهرات لطلاب الجامعات.
• المحاكمات ذات الطابع السياسى عددها ١٧٠.
• أحكام الإعدام التى صدرت عددها ١٤٧٣ حكما. وبعد نقض بعضها ألغى ٩٩١ منها، وتم تأكيد ٢٩٤ حكما. ولايزال أمام المفتى ١٨٨ حكما آخر لم يتأيد فيها الإعدام.
• العمليات الإرهابية التى تمت خلال العام وصل عددها إلى ٨٦ عملية. كان نصيب القاهرة منها ٢٩ عملية. أما سيناء فقد تمت فيها ٣١ عملية. وهذه هى النسبة الأكبر. أما بقية العمليات فقد توزعت بنسب متفاوتة على بقية المحافظات.
• المحتجزون لحساب القضايا السياسية نحو ٤٢ ألف شخص، توزعوا على مختلف سجون الجمهورية.
• المدنيون الذين قدموا إلى المحاكمات العسكرية عددهم ٨٥٧ شخصا منهم ١٥٤ طالبا.
تقرير «أرشيف التعذيب فى شهر فبراير» (٢٠١٥) أصدره مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب. وتضمن توثيقا لوقائع التعذيب التى مارستها الأجهزة الأمنية بحق المواطنين من اليوم الأول فى الشهر وحتى نهايته. واعتمد التوثيق على شهادات إخصائيى الطب الشرعى وأقوال الضحايا فى داخل السجون وخارجها. ورصد التقرير ٨٢ حالة من ذلك القبيل. آخرها قصة المحامى الشاب كريم حمدى (٢٣ سنة) الذى قتل فى قسم المطرية بشرق القاهرة. وقد أثبت تقرير الطبيب الشرعى أنه تعرض لضرب شديد أحدث كسورا فى عشرة أضلع وأدى إلى قطع لسانه.
وتمثلت أبرز حالة تعذيب تعرض لها هى قصة المعتقل محمد عبدالعاطى الذى كان محتجزا فى مستشفى إمبابة العام، الذى أثبت الطب الشرعى أنه قتل بأربع رصاصات أطلقت على صدره. وهناك تفاصيل أخرى كثيرة وصادمة، لا مجال لاستعراضها لأسباب مفهومة. إلا أنه استوقفنى فيها أن قسم شرطة مدينة المنصورة كان له النصيب الأوفر من وقائع التعذيب المذكورة، إذ تم توثيق ١٣ حالة تعذيب وقعت فيه خلال شهر فبراير.
أعيد التذكير بأننا لا ينبغى أن ننطلق من التسليم بمضمون التقريرين إلا بعد التحقق من صحة الوقائع المذكورة فيهما. وفى كل الأحوال فإننا لا نستطيع أن نتجاهلهما كما فعلت وسائل الإعلام المصرية. ولابد أن نحمدالله أن نصيهما متوافران على الانترنت، الأمر الذى أنقذها من سيف حظر النشر الذى بات من آليات التستر على الفضائح ودفن الرءوس فى الرمال.
لا يقولن أحد إن النشر يشوه سمعة البلد ويسىء إلى النظام، لأن حدوث الوقائع التى تضمنها التقريران هى أكثر ما يسىء إلى سمعة البلد. وبالدقة فإن ما ندعو إليه هو تطهير السمعة وتنقيتها من البقع السوداء التى تطرأ عليها. ولا ينبغى أن ننسى فى هذا الصدد أن تقرير التعذيب الذى أعلنته فى شهر ديسمبر من العام الماضى لجنة الاستخبارات فى الكونجرس الأمريكى بعد خمس سنوات من التحقيق الذى شمل ٦ ملايين وثيقة وظفه النظام لصالحه. فأعلن الرئيس أوباما أن بلاده تعترف بالخطأ إذا وقع لأن المبادرة إلى إصلاحه لاستعادة الثقة فى الدولة أفضل من التستر عليه بما يؤدى إلى فقدان تلك الثقة وتدمير سمعة الدولة.
لقد تجاهلت وسائل الإعلام المصرية التقريرين، حيث شغلت منابرها الإعلامية فى الأسبوع الماضى بقصة قتل كلب الهرم وترشح راقصة من الدرجة الثالثة للانتخابات البرلمانية واشتراك زوجة محافظ الإسكندرية فى بعض اجتماعاته. أما وكالة «أنباء الشرق الأوسط» الرسمية فقد أبرزت خطبة السيد ياسر رجب سفير مصر فى بوروندى أثناء احتفال أقيم بمناسبة تقديم مصر بعض المساعدات اللوجستية إلى لجنة الانتخابات هناك. وفى الاحتفال ألقى كلمة أعلن فيها أن مصر قدمت تلك المساعدات إسهاما منها فى تشجيع المسار الديمقراطى فى بوروندى! ــ وهو التشجيع الذى صرنا نتمنى أن نلمس أثره فى داخل مصر!