فهمي هويدي
إحدى البديهيات التى غابت عن وسائل الإعلام عندنا أن المتلقى مشاهدا كان أم قارئا أو مستمعا هو صاحب الحق الأول فيما يبث أو ينشر. أقول ذلك بعدما لاحظت أن الكثير مما يبث وينشر يخاطب السلطة ويهمها ولا يخاطب الناس. كما أن بعض الإعلاميين أصبحوا يتراشقون وينقلون معاركهم الشخصية على شاشات التليفزيون وصفحات الصحف، فى حين أنها لا تهم الناس فى قليل أو كثير. وهو ما اعتبره ضمن الأعاجيب التى طرأت على فضائنا الإعلامى وافقدته وظيفته ومعناه، بل وشوهت أجيالا من الشبان الموهوبين، الذين كان يمكن أن يضيفوا الكثير لو أنهم نشأوا فى بيئة مهنية أفضل.
هذا الخلل فى الأداء الإعلامى الذى أهدر العديد من القيم المهنية التى ظنناها من الثوابت يشعر أمثالى من «قدماء المحاربين» بالغربة والدهشة. الأمر الذى ذكرنى بالملاحظة التى أبداها الصحابى أنس بن مالك حين انتقد معاصريه من التابعين فقال: انكم لتعملون أعمالا هى أدق فى عيونكم من الشعر، إذ كنا نعدها على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الموبقات. إذ خطر لى، إن ذلك عين الحاصل عندنا، بعدما صرنا نصادف أعمالا فى الإعلام المرئى والمقروء، يراها بعض القائمين على أمر المهنة فى الوقت الراهن أمورا بسيطة وعادية، فى حين أنها كانت تعد من «الموبقات» فى الخمسينيات والستينيات. يكفى أن تعلم أن الخطأ اللغوى كان يعد جريمة تنتقص من قدر الصحفى، أما الخطأ الإملائى فقد كان يعد فضيحة يقرع بسببها المحرر ولا تغتفر له.
تغيرت الدنيا صحيح، لكنها لم تتقدم كثيرا فى الساحة الإعلامية على الأقل. إذ انتقلنا من الصحافة الخاصة إلى صحافة الدولة التى أصبحت تصدر ما سمى بالصحف القومية. وظل الإعلام المسموع والمرئى معبرا عن النظام وتحت سيطرته. ثم ظهرت الصحافة الحزبية مع إقرار التعددية السياسية. وفى وقت لاحق برز الإعلام المستقل على الصعيدين المقروء والمرئى، وهيمن رجال الأعمال على ذلك النوع الأخير، مما أدى إلى تراجع حسابات وشروط المهنة أمام حسابات وتطلعات الوافدين الجدد. ومع تطور وسائل الاتصال عرفنا ما يمكن أن يسمى بالإعلام الخاص، حيث أصبح لكل راغب صفحة أو صحيفة خاصة فى الفضاء الإلكترونى. وهذه الأخيرة أصبحت خارج السيطرة ولم تعد تخضع لأى قواعد.
فى هذه الأجواء تداخلت فى المهنة حسابات الأطراف المختلفة وظل للسلطة دورها التقليدى الذى تضاعف واتسع نطاق تأثيره كما برزت حسابات رجال الأعمال والمنابر السياسية المختلفة. وفى هذا الخضم تراجع حظ القارئ الذى ظل طول الوقت يلعب دور المتلقى قليل الحيلة أو عديمها. صحيح أن المتلقى وجد متنفسا له من خلال مواقع التواصل الاجتماعى التى تزايدت فيها أعداد المغردين والمدونين بمضى الوقت. إلا أن الكتلة البشرية الأوسع ظلت خاضعة لتأثير وتعبئة وسائل الإعلام التقليدية، المرئى منها بالدرجة الأولى ثم المقروء. ولاتزال تلك الوسائل صاحبة التأثير الأكبر على بحر البشر الواسع. وفى الوقت الراهن فإنها صارت أهم أبواق السلطة ومنابرها، وكان طبيعيا فى هذه الحالة ان يتقدم أداؤها السياسى على المهنى ودورها التعبوى على التنويرى. وفى ظل ذلك الترتيب فى المهام والأدوار تآكلت قيم المهنة حينا بعد حين. فصار الولاء مقدما على الكفاءة، والهتاف مقدما على الحوار، ولم يعد الإعلامى باحثا عن الحقيقة ولا معبرا عن ضمير المجتمع، وإنما غدا مندوبا للسلطة وواعظا ومصدرا للحقيقة.
الدور السياسى أدى إلى تضخم ذات الإعلامى وحوله إلى مندوب للسلطة وأحد صناع الرأى العام، وفى هذه الحالة تداخل الخاص عنده مع العام، الأمر الذى أقنعه بأن معاركه الشخصية من الأمور التى يتابعها الرأى العام وينشغل بها «جمهوره».
لأن المعيار ظل سياسيا وأمنيا فى المقام الأول، فكل ما عدا ذلك أصبح يهون ويحتمل. خصوصا أن الأداء الإعلامى لم يعد خاضعا لأى ضوابط من ذلك القبيل الذى يحمى قيم المهنة وتقاليدها. فانفلت العيار على النحو الذى صرنا نلحظه على الشاشات وفى بعض الكتابات التى تصنف ضمن «الموبقات».
لا أعرف إن أحدا درس مدى إسهام ذلك الانفلات فى التراجع المشهود فى نسبة مشاهدى البرامج التليفزيونية الحوارية وكذلك التراجع المماثل فى معدلات توزيع الصحف، لكن الذى لاشك فيه أن المتلقى ملَّ تجاهله فى وسائل الإعلام. وحين يحدث ذلك فإنه يشهد بعمق الأزمة ويصبح داعيا إلى علاج أسبابها. إلا أننى وجدت قلقا مماثلا على تآكل قيم وتقاليد عدة مهن أخرى، إذ أسمع أن ذلك حاصل بين الأطباء والمهندسين والمحاسبين والقضاة والمحامين، وغيرهم، وهو ما يدعو إلى توسيع دائرة البحث للتحقق مما إذا كان ذلك الادعاء حقيقة أم وهما، وإذا صح أن له ظلا من الحقيقة فإن ذلك يثير أسئلة أكبر، إذ يتعين التعرف على مصدر ذلك التآكل، وهل هو من داخل المهنة أم من خارجها، وهل هى أزمة مهن أم أنها أزمة مرحلة يمر بها الوطن. لا أملك إجابة على تلك الأسئلة إلا أننى أرجو أن نعطيها حقها من التفكير.