شهادة الاغتراب والدهشة

شهادة الاغتراب والدهشة

المغرب اليوم -

شهادة الاغتراب والدهشة

فهمي هويدي

إحدى البديهيات التى غابت عن وسائل الإعلام عندنا أن المتلقى مشاهدا كان أم قارئا أو مستمعا هو صاحب الحق الأول فيما يبث أو ينشر. أقول ذلك بعدما لاحظت أن الكثير مما يبث وينشر يخاطب السلطة ويهمها ولا يخاطب الناس. كما أن بعض الإعلاميين أصبحوا يتراشقون وينقلون معاركهم الشخصية على شاشات التليفزيون وصفحات الصحف، فى حين أنها لا تهم الناس فى قليل أو كثير. وهو ما اعتبره ضمن الأعاجيب التى طرأت على فضائنا الإعلامى وافقدته وظيفته ومعناه، بل وشوهت أجيالا من الشبان الموهوبين، الذين كان يمكن أن يضيفوا الكثير لو أنهم نشأوا فى بيئة مهنية أفضل.

هذا الخلل فى الأداء الإعلامى الذى أهدر العديد من القيم المهنية التى ظنناها من الثوابت يشعر أمثالى من «قدماء المحاربين» بالغربة والدهشة. الأمر الذى ذكرنى بالملاحظة التى أبداها الصحابى أنس بن مالك حين انتقد معاصريه من التابعين فقال: انكم لتعملون أعمالا هى أدق فى عيونكم من الشعر، إذ كنا نعدها على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الموبقات. إذ خطر لى، إن ذلك عين الحاصل عندنا، بعدما صرنا نصادف أعمالا فى الإعلام المرئى والمقروء، يراها بعض القائمين على أمر المهنة فى الوقت الراهن أمورا بسيطة وعادية، فى حين أنها كانت تعد من «الموبقات» فى الخمسينيات والستينيات. يكفى أن تعلم أن الخطأ اللغوى كان يعد جريمة تنتقص من قدر الصحفى، أما الخطأ الإملائى فقد كان يعد فضيحة يقرع بسببها المحرر ولا تغتفر له.

تغيرت الدنيا صحيح، لكنها لم تتقدم كثيرا فى الساحة الإعلامية على الأقل. إذ انتقلنا من الصحافة الخاصة إلى صحافة الدولة التى أصبحت تصدر ما سمى بالصحف القومية. وظل الإعلام المسموع والمرئى معبرا عن النظام وتحت سيطرته. ثم ظهرت الصحافة الحزبية مع إقرار التعددية السياسية. وفى وقت لاحق برز الإعلام المستقل على الصعيدين المقروء والمرئى، وهيمن رجال الأعمال على ذلك النوع الأخير، مما أدى إلى تراجع حسابات وشروط المهنة أمام حسابات وتطلعات الوافدين الجدد. ومع تطور وسائل الاتصال عرفنا ما يمكن أن يسمى بالإعلام الخاص، حيث أصبح لكل راغب صفحة أو صحيفة خاصة فى الفضاء الإلكترونى. وهذه الأخيرة أصبحت خارج السيطرة ولم تعد تخضع لأى قواعد.

فى هذه الأجواء تداخلت فى المهنة حسابات الأطراف المختلفة وظل للسلطة دورها التقليدى الذى تضاعف واتسع نطاق تأثيره كما برزت حسابات رجال الأعمال والمنابر السياسية المختلفة. وفى هذا الخضم تراجع حظ القارئ الذى ظل طول الوقت يلعب دور المتلقى قليل الحيلة أو عديمها. صحيح أن المتلقى وجد متنفسا له من خلال مواقع التواصل الاجتماعى التى تزايدت فيها أعداد المغردين والمدونين بمضى الوقت. إلا أن الكتلة البشرية الأوسع ظلت خاضعة لتأثير وتعبئة وسائل الإعلام التقليدية، المرئى منها بالدرجة الأولى ثم المقروء. ولاتزال تلك الوسائل صاحبة التأثير الأكبر على بحر البشر الواسع. وفى الوقت الراهن فإنها صارت أهم أبواق السلطة ومنابرها، وكان طبيعيا فى هذه الحالة ان يتقدم أداؤها السياسى على المهنى ودورها التعبوى على التنويرى. وفى ظل ذلك الترتيب فى المهام والأدوار تآكلت قيم المهنة حينا بعد حين. فصار الولاء مقدما على الكفاءة، والهتاف مقدما على الحوار، ولم يعد الإعلامى باحثا عن الحقيقة ولا معبرا عن ضمير المجتمع، وإنما غدا مندوبا للسلطة وواعظا ومصدرا للحقيقة.

الدور السياسى أدى إلى تضخم ذات الإعلامى وحوله إلى مندوب للسلطة وأحد صناع الرأى العام، وفى هذه الحالة تداخل الخاص عنده مع العام، الأمر الذى أقنعه بأن معاركه الشخصية من الأمور التى يتابعها الرأى العام وينشغل بها «جمهوره».

لأن المعيار ظل سياسيا وأمنيا فى المقام الأول، فكل ما عدا ذلك أصبح يهون ويحتمل. خصوصا أن الأداء الإعلامى لم يعد خاضعا لأى ضوابط من ذلك القبيل الذى يحمى قيم المهنة وتقاليدها. فانفلت العيار على النحو الذى صرنا نلحظه على الشاشات وفى بعض الكتابات التى تصنف ضمن «الموبقات».

لا أعرف إن أحدا درس مدى إسهام ذلك الانفلات فى التراجع المشهود فى نسبة مشاهدى البرامج التليفزيونية الحوارية وكذلك التراجع المماثل فى معدلات توزيع الصحف، لكن الذى لاشك فيه أن المتلقى ملَّ تجاهله فى وسائل الإعلام. وحين يحدث ذلك فإنه يشهد بعمق الأزمة ويصبح داعيا إلى علاج أسبابها. إلا أننى وجدت قلقا مماثلا على تآكل قيم وتقاليد عدة مهن أخرى، إذ أسمع أن ذلك حاصل بين الأطباء والمهندسين والمحاسبين والقضاة والمحامين، وغيرهم، وهو ما يدعو إلى توسيع دائرة البحث للتحقق مما إذا كان ذلك الادعاء حقيقة أم وهما، وإذا صح أن له ظلا من الحقيقة فإن ذلك يثير أسئلة أكبر، إذ يتعين التعرف على مصدر ذلك التآكل، وهل هو من داخل المهنة أم من خارجها، وهل هى أزمة مهن أم أنها أزمة مرحلة يمر بها الوطن. لا أملك إجابة على تلك الأسئلة إلا أننى أرجو أن نعطيها حقها من التفكير.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

شهادة الاغتراب والدهشة شهادة الاغتراب والدهشة



GMT 20:14 2024 الجمعة ,20 أيلول / سبتمبر

جوال قتّال

GMT 20:12 2024 الجمعة ,20 أيلول / سبتمبر

الدهناء وبواعث الشجن

GMT 20:10 2024 الجمعة ,20 أيلول / سبتمبر

محاولات لفتح ملفات لوكربي المغلقة

GMT 20:08 2024 الجمعة ,20 أيلول / سبتمبر

الطرح المخاتل لمشكلة الهجرة غير النظاميّة

GMT 20:06 2024 الجمعة ,20 أيلول / سبتمبر

المعرفة القاتلة والحرب المحتملة

GMT 20:05 2024 الجمعة ,20 أيلول / سبتمبر

زيارة إلى وادي السيليكون الفرنسي

GMT 20:03 2024 الجمعة ,20 أيلول / سبتمبر

ليست بعدد الأهداف

GMT 20:01 2024 الجمعة ,20 أيلول / سبتمبر

التشكيل المنتظر امتحان حسان الأول

ياسمين صبري بإطلالات أنيقة كررت فيها لمساتها الجمالية

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 22:07 2020 الإثنين ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

"عنكبوت" فيراري ينطلق بقوة 1000 حصان نسخة مكشوفة من SF90

GMT 08:20 2018 الإثنين ,02 إبريل / نيسان

يارا تظهر بإطلالة مثيرة في فستان أخضر مميز

GMT 11:17 2022 الأربعاء ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

سعر الريال القطرى أمام الجنيه المصرى اليوم الأربعاء 23-11-2022

GMT 14:49 2021 الخميس ,26 آب / أغسطس

4 ساعات غطس للرجل المغامر

GMT 03:18 2020 الأربعاء ,03 حزيران / يونيو

منظمة الصحة العالمية تزف بشرى سارة بشأن "كورونا"
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib