فهمي هويدي
أيهما يسىء إلى سمعة مصر أكثر: أن تستمر فى إغلاق معبر رفح بما يحكم الحصار حول فلسطينيى قطاع غزة، أم أن يشكو بعض الفلسطينيين من معاناتهم جراء ذلك؟ هذا السؤال له قصة ألخصها فيما يلى:
فى إحدى الحلقات الأخيرة لبرنامج «اكتشاف المواهب» وقبل أن تقدم فرقة التخت الشرقى الفلسطينية إسهامها تحدث بعض الصبية أعضاء الفرقة عن معاناتهم وهم يحاولون الوصول من غزة إلى بيروت. ومما ذكروه أنهم ذهبوا إلى معبر رفح ثلاث مرات، لكنهم فشلوا فى عبوره بسبب إغلاقه فى وجه الفلسطينيين. إلا أنهم نجحوا فى المرة الرابعة حين وجدوا المعبر مفتوحا، فاستقلوا سيارة حملتهم فى رحلة عذاب أخرى إلى مطار القاهرة. ومن هناك استقلوا الطائرة إلى بيروت.
أفاضت الصحف فى وصف انبهار الجميع بأداء الفرقة وتأثرهم البالغ الذى دفع كثيرين إلى البكاء حين شاهدوا الصبية الخمسة وهم يغنون ويعزفون. ومما نشرته جريدة الشروق فى 15/1 أنهم استحقوا بجدارة المنافسة على جوائز البرنامج، وأن أعضاء لجنة التحكيم أكدوا على أهمية دعم الفرقة باعتبارها تجسد الصمود والتحدى والحضور الفلسطينى. إلا أن ما استوقفتنى فى التقرير المنشور عن حلقة البرنامج الذى تقدمه إحدى القنوات الخاصة عبارة ذكرت أن بعض الأصوات «اتهمت البرنامج بالنيل من سمعة مصر بالحديث عن إغلاق المعبر أمام مرور الفلسطينيين أثناء القصف الإسرائيلى لغزة، الذى تسبب فى احتجاز الفرقة على الحدود».
لا أعرف مدى دقة الجملة الأخيرة، لكننى اعترف أن مضمونها الذى لا أستبعده صرفنى عن متابعة العرض البديع والمؤثر الذى قدمته الفرقة. إذ جعلنى أطرح السؤال الذى بدأت به الكلام وفى خلفيته قلت إنه إذا كان إغلاق المعبر أمرا سيئا ومخجلا، فهل يكون الموقف الصحيح أن نتستر عليه ونخفيه بما يرتبه ذلك من استمرار لمعاناة أهل القطاع وتعذيبهم، أم أن ننبه إلى الخطأ الحاصل جراء ذلك لتصحيحه بما يلبى المصالح ويمتص مشاعر السخط والغضب؟
إن المرء لا يستطيع أن يخفى دهشته إزاء الموقف العربى ـ دعك من الدولى ـ من قطاع غزة. ذلك أن نموذج البسالة والصمود الذى قدمه أهل غزة فى مواجهة مخططات العدوان والحصار يستحق الحفاوة والاعتزاز. ليس من جانب الفلسطينيين وحدهم، وإنما من العرب أجمعين. ولكن الأمر المستغرب حقا أن ذلك الأداء لم ينل ما يستحقه من تقدير فحسب، ولا قوبل بالصمت فحسب، وإنما بدا وكأن القطاع يحاسب ويعاقب عليه. على الأقل فذلك ما نلمسه الآن فى مختلف الضغوط وصور التنكيل، التى باتت تمارس ضد القطاع. ليس فقط من جانب إسرائيل التى نفهم موقفها، ولكن من جانب الأشقاء الذين يستعصى فهم موقفهم. فى هذا الصدد فإننى أسجل ثلاث ملاحظات للتفكير فيها هى:
• إن التعبئة الإعلامية والسياسية المضادة حققت نجاحا مشهودا فى تسميم العلاقة بين المصريين والفلسطينيين عموما وأهل غزة بوجه أخص. حتى أصبح عدد غير قليل من المصريين يستشعرون حساسية وامتعاضا حين يتطرق الحديث إلى ذلك الملف، الذى بات مسكونا بالتوجس وسوء الظن. وهو ما دفعنى إلى القول مازحا ومحسورا ذات مرة أن مصر وقعت معاهدة سلام مع الإسرائيليين، لكن مثل تلك المعاهدة لم توقع مع الفلسطينيين. كما دعوت فى مقام آخر إلى فض الاشتباك بين الطرفين. أدرى أن سجل الشكوك والهواجس تحول إلى اتهامات فى حملة التعبئة المضادة حتى تعامل معها البعض باعتبارها مسلمات وحقائق ثابتة. ومن المؤسف أننا لم نلمس جهدا نزيها ومحايدا حاول تحرى الحقيقة فى تلك الاتهامات. وكانت النتيجة أن الادعاءات تحولت إلى حقائق، كانت أساسا لمحاكمات قامت بها المنابر الإعلامية، التى أصدرت أحكامها ونفذتها دون دفاع أو نقض أو إبرام.
• الملاحظة الثانية أننا صرنا نسمع فى التصريحات الرسمية عن انفراجة كبيرة وواسعة فى القضية الفلسطينية من خلال الاتصالات الدبلوماسية والمؤسسات الدولية. وكان اعتراف بعض الدول الأوروبية بالدولة الفلسطينية أحد العوامل التى شجعت ذلك الاتجاه. وهو ما يرفع من منسوب الدهشة عندى، لأننا ونحن نتحدث عن الانفراجة الكبيرة نقف عاجزين عن إنجاز تحقيق متواضع يمثل انفراجة متواضعة وصغيرة تتمثل فى فتح معبر رفح، الذى هو المنفذ الوحيد للفلسطينيين الذى لا يمر بإسرائيل ويصلهم بالعالم الخارجى. وهو ما وضعنا أمام مفارقة لافتة للنظر. ذلك أن التصريحات الرسمية باتت تتحدث عن حلول تمثل الحد الأقصى، فى حين أنها تمتنع عن اتخاذ خطوة مثل فتح معبر رفح. تدور فى فلك الحد الأدنى. من حيث إنها تمس إنسانية البشر ومعايشهم وليس الدولة بحدودها ومسئولياتها.
• الثالثة إننى لم أفهم كيف يمكن أن يهدد فتح معبر رفح الأمن القومى المصرى. وهى المقولة التى ما برحت تتردد فى الحوارات المتعلقة بالموضوع وفى التعليقات والتقارير الصحفية. إذ ما أعلمه أنه ما من شخص يجتاز معبر رفح إلا بعد أن يكون اسمه قد تمت مراجعته. وحالته تم فحصها وحقائبه تم تفتيشها، الأمر الذى يؤكد أنه فى مروره لابد أن يكون قد تم فحصه جيدا من جانب ممثلى الجهات الأمنية. وهذه الاحتياطات كفيلة بطمأنة المسئولين إلى أن المعبر ليس مصدرا لتهديد أمن مصر من أى باب.
ما أسمعه أن المسئولين المصريين يكتفون فى كل مناقشة بالإحالة إلى مقتضيات الأمن القومى، ويعتبرون أن إطلاق العبارة كافٍ لإنهاء الحديث فى الموضوع، وهو ما يمكن أن يكون مفهوما إذا تعلق الأمر بمصلحة طرف واحد، ولكن حين يكون هناك طرف آخر فمن حقه أن يعرف إجابة السؤال كيف؟ كما أن من حقه أن يرد على الحجج التى تساق لتبرير الإغلاق.
الأكثر مدعاة للدهشة أن يقول قائل بأن الرئيس محمود عباس يؤيد الإغلاق ويحث عليه لتصفية حسابه مع حماس. وذلك عذر أقبح من الذنب. ثم إنه ينقل المناقشة إلى مستوى العبث، لأننى لا أتخيل رئيسا يعلن الحرب على شعبه بهذه الطريقة، إلا إذا كان سائرا على طريق «ممانعة» الرئيس السورى بشار الأسد