ثمة تغير مهم فى السياسة السعودية يتعين على مصر أن ترصده وأن تتحسب له.
(١)
حين زار الرئيس عبدالفتاح السيسى الرياض هذا الأسبوع فى وجود الرئيس التركى رجب طيب أردوغان بالمملكة، فإن الرئيسين لم يلتقيا حقا، ولم يتواجدا فى العاصمة السعودية فى ذات الوقت (أردوغان ذهب لأداء العمرة) إلا أن تنظيم الزيارتين فى وقت واحد لم يخل من رسالة حرصت المملكة على توجيهها. وكانت خلاصة الرسالة ان وقوف الرياض إلى جانب مصر، لا يعنى مخاصمة تركيا. باعتبار أن سياسة المملكة فى عهدها الجديد لها حسابات مغايرة ورؤية مختلفة لمستقبل الشرق الأوسط. عند الحد الأدنى فهى أولا مع الاحتواء وضد الاستقطاب. وهى ثانيا ترى أن من مصلحة المملكة ومصلحة المنطقة ان يعاد رسم تحالفاتها من جديد لمواجهة التحديات الطارئة فى الساحة التى أصبحت تهدد الجميع بدرجات متفاوتة.
وفيما فهمت من مصدر وثيق الصلة بدائرة القرار فى الرياض فإن هذا الموضوع محل دراسة متأنية. ستعلن نتائجها خلال الأسابيع وربما الأيام القليلة المقبلة. والقدر الذى اتضح حتى الآن أن التوجه المنتظر سوف يشمل تغييرا هادئا فى السياسات وفى الأشخاص. وسوف يقتضى ذلك إحداث تغير فى منصب وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل (٧٥ سنة) الذى يشغل منصبه منذ نحو أربعين عاما، خصوصا انه كان قد طلب عدة مرات اعفاءه من المنصب لظروفه الصحية، وقد اضطر فى شهر يناير الماضى لإجراء عملية جراحية كبيرة فى فقرات الظهر بالولايات المتحدة، لايزال يعالج من آثارها. وقيل لى إن السفير السعودى بالقاهرة، السيد أحمد عبدالعزيز القطان، مرشح للتغيير بدوره لأنه يمثل مرحلة فى السياسة الخارجية السعودية يعاد رسمها من جديد، إلا أنه رؤى تأجيل إصدار قرار بهذا الشأن فى الوقت الراهن. على الأقل لحين بلورة رؤية العهد الجديد بصورة نهائية.
(٢)
معالم التغيير بدت فى السياسة الداخلية السعودية قبل السياسة الخارجية، ذلك انه خلال الأسبوع الذى أعقب إعلان وفاة الملك عبدالله بن عبدالعزيز أصدر خلفه الملك سلمان ٣٤ أمرا ملكيا تعلقت بإعادة ترتيب الأوضاع الداخلية فى البلاد. بعضها تعلق بالمناصب العليا فى الدولة، والبعض الآخر أعاد تشكيل مؤسسات الداخل (تم إدماج عشر مؤسسات عامة فى مؤسستين اثنتين فقط) والبعض الثالث انصب على زيادة أجور ومعاشات العاملين. وكان واضحا ان تلك القرارات قد سبق إعدادها خلال الفترة التى كان فيها الملك الراحل مغيبا عن الوعى، وهى التى استمرت أسبوعا قبل الإعلان الرسمى عن وفاته (فى ٢٣ يناير الماضى).
إضافة إلى محاولة هز الجهاز الحكومى فى الداخل وتطعيم الحكومة ببعض الخبرات الشابة، فإن فريق الملك الجديد عمل على تغيير الأجواء العامة عن طريق إحداث نوع من الانفراج النسبى فى قضية الحريات. إذ لوحظ مثلا ان بعض الدعاة الذين سبق أن صودرت جوازات سفرهم أعيدت لهم تلك الجوازات (أشهرهم الشيخ سلمان العودة). كما ان إمام الحرم الشيخ الدكتور سعود الشريم الذى منع من الإمامة ومن إلقاء خطبة الجمعة بسبب اتهامه بميوله الإخوانية أعيد بدوره إلى عمله مرة أخرى. كذلك تم إيقاف تنفيذ حكم الجلد الذى صدر بحق المدون السعودى رائف بدوى. وبعد وقف الإعلامى والكاتب السعودى داوود الشريان عن ممارسة الكتابة، فإنه عاد إلى كتابة زاويته اليومية بجريدة «الحياة» اللندنية. وفى أول عمود له نشر يوم الأحد الماضى الأول من مارس انتقد التضييق على أصحاب الآراء المستقلة. وقال اننا فى العالم العربى أصبحنا نتمثل مقولة جورج بوش الابن الشهيرة «من ليس معى فهو ضدى»، مضيفا ان الشك والخوف استبدا بنا بحيث «لم نعد نحتمل الرأى المستقل وان كان صامتا».
(٣)
بعد رحيل الملك عبدالله ثار لغط كبير حول توجهات السياسة الخارجية للملك الجديد، وتحدث ديفيد هيرست المحلل البريطانى البارز عما أسماه «انقلاب فى القصر» فى تقرير نشر على موقع «هفنجتون» الشهير فى ٣١ يناير وفيه أشار إلى التقارب المحتمل للسعودية مع كل من تركيا وقطر، والاتجاه إلى استعادة الدور التقليدى الذى طالما قامت به المملكة بين فتح وحماس. ونوَّه إلى احتمال حدوث تغير نوعى فى المساندة التى قدمتها الرياض للنظام فى مصر. ورغم ان هذا الكلام كان مبكرا نسبيا، لأنه صدر بعد نحو أسبوع من وفاة الملك عبدالله، إلا أن صدقيته تأكدت حين نشر الكاتب السعودى جمال خاشقجى مقاله فى اليوم ذاته بجريدة «الحياة» كان عنوانها «لكل زمان دولة ورجال.. وسياسة خارجية».
لفت الانتباه إلى ان الكاتب استخدم فى مقالته لغة جديدة نسبيا، إذ تحدث عن فشل السياسات السابقة السعودية والأمريكية فى وقف الانهيار الحاصل فى المنطقة. وأرجع ذلك إلى ان التنسيق والتعاون بين الدول الثلاث المؤهلة لوقف ذلك الانهيار لم يكن جيدا وربما لم يكن موجودا. أما الدول الثلاث الذى أشار إليها فهى المملكة السعودية والولايات المتحدة وتركيا. وفى سياق حديثه عن انهيار الأوضاع فى العالم العربى فإن إشارته إلى مصر لم تكن إيجابية، إذ قال ان «أوضاعها لا تبشر بخير». وفى النهاية فإنه وجد الحل فى اقتراح غرفة عمليات مشتركة سعودية أمريكية تركية وظيفتها إطفاء حرائق المنطقة وتحقيق الاستقرار والمصالحة بين أطرافها.
الكلام الأكثر تفصيلا. الذى تناول الشأن المصرى ورد فى مقالة للدكتور خالد الدخيل الكاتب البارز والأكاديمى المعروف، الذى نشرته له جريدة «الحياة» فى ١/٣ الحالى تحت عنوان «التحول السعودى والقلق المصرى»، فى مقالته نوه إلى تأكيد الملك سلمان بن عبدالعزيز على ان الدعم السعودى لمصر لن يتغير لكن المشكلة كما رآها فى اسلوب الدعم وإطاره. لأن البعض فى مصر ــ والكلام له ــ يريد الدعم ان يكون هبة وشيكا على بياض، بحيث لا ينبغى للسعودية ان تتقارب مع تركيا مثلا لأنها تتعاطف مع الإخوان. وهو ما اعتبره تجاهلا لبديهية ان علاقات الدول لا تقوم على مثل هذه الرؤية «العاطفية». فى حين ان الرؤية السياسية الأكثر عقلانية تقضى بعدم ارتهان علاقات البلدين لا للموقف من الإخوان ولا للموقف من تركيا. «فإذا كان استقرار مصر هو مصلحة استراتيجية سعودية، وهو كذلك، فمن واجب السعودية ان تتعامل مع الإخوان كمسألة محلية مصرية فى الأساس، وان تقاربها من زاوية تأثيرها على استقرار مصر أولا، ثم تداعيات ذلك إقليميا وبالتالى عليها ثانيا، من الزاوية ذاتها فإن استمرار السعودية فى الابتعاد عن تركيا كما يريد البعض فى مصر لا يخدم التوازنات الإقليمية فى المرحلة الراهنة. وهذه التوازنات هى الأساس الأول لاستقرار المنطقة، وبالتالى استقرار مصر».
أضاف الكاتب ان قضية جماعة الإخوان «تحولت فى مصر إلى نوع من العقدة الفكرية والسياسية. عقدة مدمرة تحتاج إلى شىء من التفكيك والتمييز بين مبررات الموقف من الجماعة ومتطلبات مصلحة الدولة على المستوى الإقليمى.. ثم ان تضخم قضية الإخوان على ذلك النحو هو نتيجة طبيعية لغياب مشروع فكرى وسياسى مصرى تلتف حوله أغلبية المصريين». وفى ختام مقالته ذكر الأستاذ الدخيل ان الحاجة ملحة لإقامة مثلث سعودى مصرى تركى يمثل مصلحة استراتيجية للأطراف الثلاثة. فهى فى رأيه أطراف تتكامل فيما بينها سياسيا واقتصاديا، والتنسيق بينها سيعيد إلى المنطقة شيئا من التوازن بعد سقوط العراق وسوريا، إلى جانب انه سيشكل حاجزا أمام الدور الإيرانى الزاحف، ومستهدفا تأسيس حالة من الاستقرار فى خضم المرحلة المضطربة حاليا.
(٤)
الحاصل فى اليمن يمثل الآن أهم تحدٍ خارجى يواجه نظام الملك سلمان، ذلك ان استيلاء الحوثيين المدعومين من إيران على السلطة بمثابة تهديد مباشر لأمن المملكة، فضلا عن أنه يوفر مناخا مواتيا لانتشار تنظيم القاعدة التى تتمركز بعض قواعده فى الجنوب. وإذا أضفنا أن جماعة داعش أصبح لها حضورها فى شمال البلاد، فإن ذلك يضيف تعقيدا جديدا على المشهد. ومن المصادفات ان ما جرى فى اليمن من تغيير وتهديد لأمن السعودية يشبه فى بعض جوانبه ما جرى فى ليبيا واعتبرته مصر تهديدا لأمنها، فالجماعات الإرهابية لها وجودها بدورها فى ليبيا، وكما ان هناك حكومتين ليبيتين إحداهما فى طبرق والثانية فى طرابلس، كذلك الحال فى اليمن. حيث يسيطر الحوثيون على السلطة فى صنعاء فى حين أن الرئيس الشرعى موجود فى عدن. وفى الحالتين فإن شبح الحرب الأهلية ليس مستبعدا، كما ان احتمالات التشرذم والتفتيت واردة ــ كيف تصرف الوضع الجديد فى السعودية إزاء المخاطر التى لاحت فى اليمن؟
رغم ان المملكة لها علاقاتها الوثيقة مع شيوخ القبائل اليمنية، إلا أنها انحازت إلى فكرة الحل السياسى واستبعدت تماما أى تفكير فى الحل أو الحشد العسكرى. ورغم تأييدها للرئيس عبدالله منصور، إلا أنها انطلقت من ضرورة اجتماع كل الأطراف بمن فيهم الحوثيون للاتفاق على مخرج من الأزمة. واثار الانتباه فى هذا الصدد ان اتصالاتها مع مختلف الأطراف شملت التجمع اليمنى للإصلاح ــ الأقرب إلى جماعة الإخوان ــ نظرا لقدرته على تحريك الشارع الصنعانى إضافة إلى حضوره القوى فى محيط القبائل. وكانت العلاقة بين الطرفين قد أصابها فتور كبير خلال السنوات الأخيرة. وقد سجل هذه الملاحظة الكاتب السعودى جمال خاشقجى، معتبرا أن المملكة فى ظل سياستها الخارجية الجديدة «تحررت من قيود كانت قد فرضتها على نفسها فى السابق» ــ (الحياة ــ ١٨/٢).
الشاهد ان عملية مراجعة خطوط السياسة الخارجية للملكة شملت العديد من دوائر العلاقات. وانطلقت من فكرة السعى للاحتواء وتجاوز حالة الاستقطاب التى حكمت علاقاتها فى السنوات الأخيرة. فى هذا السياق، فإن الجمود أو الموات الذى ران على علاقة المملكة بحركة حماس خلال السنوات الثلاث الماضية بوجه أخص دبت فيه الحياة فى الأسابيع الأخيرة، وقال لى المصدر السعودى المتصل بدائرة القرار ان الجليد ذاب على الأقل وان استعادة الدفء فى علاقات الطرفين تبلور فى هدوء بمضى الوقت.
كيف ستؤثر تلك المتغيرات على الأوضاع فى الحليج؟ وكيف ستتعامل معها مصر؟ غيرى سيجيب عن هذه الأسئلة خلال الأسابيع المقبلة.