فهمي هويدي
تعليق عالم الفضاء المصرى الدكتور عصام حجى على مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادى كان كالتالى: تمنيت طرح استثمارات لبناء مدينة تعليمية تحتضن أحلام وطموحات الشباب وتكون مركزا للفكر والاستثمار فى البشر. خصوصا فى مجالى التعليم والصحة. ذلك ان شباب مصر هم أكبر رأس مال للوطن. والاستثمار الحقيقى هو الذى يستهدف عقول وأحلام جيل الشباب. فالدولة إذا ملكت الحاضر فالشباب يملك المستقبل.
هذه الملاحظة الرصينة أقلقت البعض وأثارت غضب آخرين. حتى ان أحدهم حذر العالم الذى يعمل بوكالة ناسا الأمريكية، وقال فى تعليقه على رأى الدكتر حجى أنه حين يبدى رأيا مخالفا لما أعلنه الرئيس السيسى، فإن ذلك سيعد مزايدة من جانبه تعرضه للاتهام بالخيانة. إلا أن أحد الغاضبين استفزته كلمات صاحبنا فعاتبه قائلا: اتق الله يا رجل. وكأنه أراد أن ينبهه إلى أنه أخطأ بما ذكره، معتبرا أنه ليس من اللائق أن يبدى هذا الرأى فى أجواء العرس المقام.
مثل هذه الملاحظة تحفل بها مواقع التواصل الاجتماعى، التى أتاحت لكل صاحب رأى أن يسجله ويجهر به بالاسلوب الذى يراه. ولاننى أحد الذين يتلقون مثل هذه الرسائل كل يوم تقريبا، فإننى أزعم أن أصداء ملاحظة الدكتور حجى كان فيها قدر كبير من الترفق به، فضلا عن أنها خلت من سوء الأدب والابتذال، خصوصا انه لم يتعرض للاتهام بالأخونة الذى طال الرئيس أوباما ومحطة تليفزيون سى. ان. ان وصحيفة واشنطن بوست. مع ذلك فأصداء ملاحظته تثير عندى أربع ملاحظات هى:
• إن طغيان أصوات التهليل والتصفيق أفسدت الحس العام بحيث إن شرائح واسعة من الناس فى مصر باتت تستغرب وتستنكر بشدة سماع أى صوت آخر لاينخرط فى العرس المقام، ليس ذلك فحسب وإنما أصبح سوء الظن هو أول ما يخطر على البال فى هذه الحالة. وقائمة الاتهامات فى هذه الحالة طويلة وبلا نهاية. فالآخر إما «إخوانجى» أو خائن وطابور خامس، وإذا لم يكن كذلك فهو يسعى إلى إسقاط الدولة والنيل من هيبتها. أو يتهم بإهانة القوات المسلحة والشرطة. وإذا كانت وسائل الإعلام قد تولت مهمة التهليل طول الوقت، فينبغى ألا ينسى فى هذا الصدد دور أجهزة التوجيه المعنوى التى تحدثت التسريبات عن الجهد الكبير الذى تبذله فى الشحن والتعبئة ورفع منسوب تهييج الرأى العام فى بعض الحالات.
• إن ثقافة التهليل هذه تجاوزت بكثير ثقافة «السمع والطاعة» التى شاعت فى أوساط الإخوان فى وقت سابق، ولاتزال محل تنديد واستهجان. ورغم ان التنديد فى محله، إلا أن دائرة «السمع والطاعة» ظلت فى محيط أعضاء الجماعة لم تتجاوزه فضلا عن أن استنكارها كان محتملا ومقبولا. أما فى الوقت الراهن فثقافة التهليل والتصفيق التى تروج لها وسائل الإعلام على مدى الساعة شوهت عقول وضمائر أعداد غفيرة من البشر، أصبحت شديدة الحساسية إزاء أى اختلاف. وهو ما أوصل الاختلاف فى الرأى إلى حدود الخصومة والقطيعة وإثارة الضغائن ليس بين المشتغلين بين العمل العام فحسب، ولكن سمومها قطعت الأواصر فى إطار العائلة الواحدة، والبيت الواحد فى حالات عدة. وهو أمر له خطره الذى يتعين الحذر منه سواء على النسيج الاجتماعى، أو على البيئة السياسية التى ينكبها ويقتلها الرأى الواحد.
• إن هذه الأجواء أفردت شرائح من «الشبيحة» الجدد الذين يؤدون ذات الوظيفة التى يمارسها أقرانهم فى سوريا، فالأخيرون يعذبون ويتولون اغتيال المعارضين ماديا، والأولون يشوهون ويتفننون فى الاغتيال المعنوى لأصحاب الرأى الآخر حتى إذا لم يكونوا من المعارضين سياسيا. وإذا كان هؤلاء الأخيرون قد أصبحوا ضحايا تصفيات الشبيحة الجدد، إلا أن الوطن يظل الخاسر الأكبر جراء انتشار ميليشياتهم فى وسائل الإعلام ومواقع التأثير على الرأى العام. ولأن تلك المهمة لاتتطلب معرفة أو ثقافة، ولاتحتاج لأكثر من الصفاقة والبذاءة والجرأة على الكذب والتغليط، فإنها تلقى رواجا فى أوساط بذاتها باتت وفيرة فى زماننا.
• إن الملاحظة التى أبداها الدكتور عصام حجى غاية فى الأهمية، وتستحق دراسة بأكثر مما تستحق عتابا أو اتهاما، ذلك ان النجاحات الاقتصادية التى حققها مؤتمر شرم الشيخ، إذا تحققت، فإنها ربما أضافت الكثير إلى مجالى الإعمار والإدارة، وهو أمر لابأس به لاريب. لكن غياب أى استثمار فى مجالى التعليم والصحة لايخدم المستقبل بأى حال. ولا تفوتنى فى هذا الصدد مقارنة تجربة النهضة فى ماليزيا بالحاصل فى مصر، ذلك انهم هناك يخصصون للتعليم فى الموازنة العامة نسبة تتجاوز ٢٥٪ من الموارد. وهذه النسبة توفر للتعليم نصيبا من الموازنة يعادل ما بين اثنين أو ثلاثة أضعاف ميزانية الجيش والدفاع.
(فى عام ٢٠٠٧ كانت ميزانية التعليم تعادل أكثر من ١٠ مليارات دولار وميزانية الجيش أقل من ٤ مليارات، وفى عام ٢٠١١ خصص للتعليم ١٣ مليار دولار وللجيش ٤.٥٦ مليار دولار) أما فى مصر، فإن دستور ٢٠١٤ تمنى أن تخصص الحكومة المصرية للتعليم ٧٪ من الموازنة العامة، وهى نسبة لاتقارن بما يخص الجيش أو الشرطة.
كان حريا بنا أن نستمع إلى رأى الدكتور حجى ونناقشه، بدلا من ان نتهمه ونحذره، ونبعث إليه برسالة تدعوه لان يلتزم الصمت ولا يتكلم إلا إذا أراد أن يشارك فى التهليل والتصفيق. وهى ذات الرسالة التى يتلقاها أمثالى من حين لآخر.