حظوظ المبدعين المغمورين

حظوظ المبدعين المغمورين

المغرب اليوم -

حظوظ المبدعين المغمورين

فهمي هويدي


أن يكون الحاكم هو الرجل الأول فى الدولة، فذلك لا يعنى أنه فلتة زمانه والأول فى كل شىء. وأن يكون الأعلى مقاما فذلك لا يعنى بالضرورة أنه الأطول قامة. ثم إن دخوله إلى مقر الحكم لا يعنى دخوله إلى التاريخ، ناهيك عن أن للتاريخ أبوابا عدة قد يدخل الحاكم إليه من باب ويدخل آخرون من الأبواب الأخرى. أقول ذلك تعليقا على اختيار الشيخ محمد بن راشد نائب رئيس دولة الإمارات وحاكم دبى شخصية العام الثقافية، باعتباره ـ كما ذكر القرار المنشور ـ واحدا «من أبرز صناع التحول فى مختلف حقول التنمية الثقافية. ولاتزال بصمته الفريدة وجهوده الحثيثة تمتد إلى ربوع الأرض كافة».
لا أجادل فى أن الرجل حفر لنفسه مكانة متميزة فى تاريخ منطقة الخليج. ولست أشك فى أنه يستحق جوائز عدة فى مجالات الإبداع والإعمار والتنمية. ولا يقلل من شأنه ولا يضيف إليه شيئا ألا يكون شخصية العام الثقافية، ولا أجد مسوغا لذلك الاختيار سوى أنه صادر عن مجلس أمناء جائزة الشيخ زايد للكتاب، التى سبق لها أن منحت الجائزة ذاتها فى دورة سابقة للعاهل السعودى الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز.
لست فى وارد انتقاد منح الجائزة للشيخ محمد بن راشد فضلا عن أن لدى استعدادا لتفهم ملابسات القرار، بل وقبوله استنادا إلى المعايير النسبية، ذلك أن منحها لرجل أنجز الكثير فى مجالات أخرى يظل أفضل من إهدائها لمن لم ينجز شيئا فى حياته سوى أن المصادفة دفعت به إلى سدة الحكم. ذلك أننى مشغول بشىء آخر هو تسجيل التحفظ على احتكار الحكام للجوائز وهم ليسوا بحاجة إليها ولا تضيف إلى رصيدهم شيئا. فى حين أن منحها لغيرهم من المبدعين القابعين فى الظل أجدى وأنفع.
فى خلفية هذا النزوع إلى إغراق الحكام وأولى الأمر بالجوائز وإضفاء أوصاف الأفضل والأرفع على أقوالهم وأفعالهم تكمن فكرة أساسية تحكم نظرة البعض إليهم فى بلادنا. ذلك أن الحاكم عند هؤلاء هو قدر مكتوب وليس قرار المجتمع واختيار الناس. هو هبة من الله (البعض يتواضع ويصفه بأنه من رسل الله) وليس مواطنا منتخبا لأجل معلوم. ولأن الأقدار هى التى ساقته فذلك يسوغ له احتكار السلطة والثروة والمجد أيضا. لذلك فلا غرابة أن يظل المواطن الأول والخبر الأول، والفائز الأول فى أى منافسة أو سباق.
هناك اعتبارات أخرى تدفع فى ذات الاتجاه يتعلق بعضها بثقافة القبيلة والنظرة إلى شيخها الذى لا يعلو فوق مقامه مقام، باعتبار أن العين لا يمكن أن تعلو على الحاجب. كما أن الأمر لا يخلو من تزلف البعض للحكام وإغراقهم بشهادات السمو والمجد جنبا إلى جنب مع إغراقهم بالأضواء وبمظاهر التعظيم والأبهة، التى تقدمهم بحسبانهم كائنات فوق البشر وخارقة للعادة.
الحكام وأولو الأمر ليسوا بحاجة لكل ذلك. فلديهم من الهالات والأضواء والألقاب والنياشين ما يكفى وزيادة. أما المبدعون المغمورون، والمتفانون المنجزون القابعون فى الظل، الذين لا حظ لهم فى الضوء ولا يذكرون فى وسائل الإعلام إلا إذا حلت بهم مصيبة أو نزلت بهم فاجعة، فهؤلاء هم الأحوج إلى التكريم والمكافأة والتمجيد، وفى حين أن تمجيد الحكام لا يضيف شيئا لا إليهم ولا إلى المجتمع، فإن مكافأة المغمورين من المبدعين تصب فى مصلحة الإبداع وفى مصلحة المجتمع.
كنت قد دعوت قبل عدة سنوات إلى الكف عن منح الجوائز للحكام ووجهاء القوم، ممن صار تكريمهم أمرا مسلما به. استحقوا ذلك أم لم يستحقوه. وتمنيت أن تتصرف لجان الجوائز إلى البحث عن المبدعين والمنجزين من المواطنين العاديين. سواء الذين أضافوا إلى حياتنا شيئا، أو أولئك الذين تفانوا فى أعمالهم موظفين أو مدرسين أو أطباء أو مهنيين وفنانين أو عمالا أو غير ذلك، رجالا كانوا أم نساء. ورشحت ذات مرة السيدة صيصة، لتكون سيدة العام فى مصر، وهى التى مات زوجها وهى حامل فى ستة أشهر. ولكى تحمى نفسها وابنتها التى أنجبتها فى بيئة الصعيد الذكورية، فإنها تنكرت فى هيئة رجل، وظلت تكافح طيلة ٤٣ عاما حتى حققت ذاتها وزوجت ابنتها ورأت أحفادها. وضربت بذلك نموذجا نادرا فى الشجاعة وإنكار الذات. ولست أشك فى أن بلادنا مليئة بالنماذج المضيئة التى لو أنها أخذت حظها من الرعاية والتشجيع لشكلت إضافة مهمة إلى مساعى النهوض والتقدم.
لا أخفى أن المسألة فى جذورها وثيقة الصلة بقيمة المواطن العادى فى المجتمع. وبمعايير التقدم المعمول بها. وهو ما يختزله السؤال التالى: هل الكفاءة والإبداع يكفيان وحدهما لفتح الأبواب وتوفير الفرص للنوابغ والمبدعين، أم أن إتاحة تلك الفرص لها شروط أخرى شخصية واجتماعية وليست موضوعية.
ولعلى لا أكون مبالغا إذا قلت إن معايير توزيع الجوائز ومكافأة المبدعين فى الدول الديمقراطية مختلفة تماما عنها فى الدول غير الديمقراطية. لأن احتكار السلطة يفضى إلى احتكار الثروة وذلك يفضى إلى احتكار الواجهات وما يستصحبه ذلك من احتكار فرص الترقى والفوز والجوائز. ثم لا تنس أن الدول الديمقراطية تتوافر لها مؤسسات الرقابة الشعبية التى تضمن للمجتمع حضورا وحيوية يسهمان فى إنضاج وإذكاء طاقات الإبداع فيه، على العكس تماما من الدول غير الديمقراطية التى يتوارى فيها دور المجتمع وتضيق فيها تلك الفرص. ولا أعرف إن كان هذا التحليل أسهم فى إيضاح الموضوع أم أنه زاده تعقيدا.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حظوظ المبدعين المغمورين حظوظ المبدعين المغمورين



GMT 23:46 2024 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

القطب التيجاني... وحماية المستهلك الروحي!

GMT 23:34 2024 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

هل ستتفتح زهور الصين وتثمر في أفريقيا؟

GMT 23:31 2024 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

كيف نفسر البلطجة الإسرائيلية؟

GMT 23:26 2024 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

قصة وعِبرة!

GMT 23:21 2024 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

عن يمين وشمال

GMT 20:14 2024 الجمعة ,20 أيلول / سبتمبر

جوال قتّال

GMT 20:12 2024 الجمعة ,20 أيلول / سبتمبر

الدهناء وبواعث الشجن

ياسمين صبري بإطلالات أنيقة كررت فيها لمساتها الجمالية

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 23:49 2024 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

فيلم نادر يكشف سراً عن منى زكي
المغرب اليوم - فيلم نادر يكشف سراً عن منى زكي

GMT 22:07 2020 الإثنين ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

"عنكبوت" فيراري ينطلق بقوة 1000 حصان نسخة مكشوفة من SF90

GMT 08:20 2018 الإثنين ,02 إبريل / نيسان

يارا تظهر بإطلالة مثيرة في فستان أخضر مميز

GMT 11:17 2022 الأربعاء ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

سعر الريال القطرى أمام الجنيه المصرى اليوم الأربعاء 23-11-2022

GMT 14:49 2021 الخميس ,26 آب / أغسطس

4 ساعات غطس للرجل المغامر

GMT 03:18 2020 الأربعاء ,03 حزيران / يونيو

منظمة الصحة العالمية تزف بشرى سارة بشأن "كورونا"
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib