ما إن هدأ الحديث عن ثورة السيسى على نظامه، حتى انفتحت أبواب الجدل حول دعوة السيسى إلى الثورة الدينية. والأولى أطلق شرارتها الأستاذ محمد حسنين هيكل فى حواره التليفزيونى الأخير، وهو يتحدث عن رؤيته لمصر من خلال خبرة العام المنقضى وآمال العام الجديد. أما الثانية فقد ألقى بها الرئيس عبدالفتاح السيسى حين كان يتحدث إلى علماء الأزهر فى مناسبة ذكرى المولد النبوى.
إلا أن الأولى قصد بها الأستاذ هيكل ان يوجه رسالة لها خلفياتها التى أشار إلى بعضها فى حديث سابق، حين نبه إلى صراع الأجهزة من حول رئيس الجمهورية. وحين أشار إلى أهمية تعزيز الفريق الرئاسى وإعادة النظر فيه. أما الثانية فقد كانت عبارة ارتجلها الرئيس السيسى، وخرج بها على نص الكلمة التى أعدت له فى المناسبة. وهو ما لاحظناه أثناء إلقائه لخطبته.
وفى حين أثارت دعوة الأستاذ هيكل لغطا وطنينا تابعنا بعض أصدائه فى وسائل الإعلام المختلفة وسمعنا عن تفاوت أصدائه فى دوائر السلطة. وفيما تابعناه وسمعناه فإن الحذر كان واضحا والاستياء من جانب أصحاب المصالح كان أكثر وضوحا. كما اننا لمسنا جهدا بذل لتحرير كلمة «النظام» أريد به تخفيف أثر الدعوة التى أطلقت واستبعاد مظنة استهدافها خرائط السلطة القائمة بما قد يؤدى إلى إدخال أى تعديل على أركانها ومكوناتها.
فى هذا الصدد فإننا قرأنا تحليلات عدة بعضها عمد إلى الدفاع عن استمرار الهياكل القائمة، كى يبقى كل شىء على ما هو عليه. أما البعض الآخر فقد أغرقنا فى تحليل الفرق بين النظام كأفراد وكيانات وبين «المنظومة» التى تقوم على الأفكار والرؤية. وأفهمنا أولئك المحللون بأن المقصود بدعوة الأستاذ هيكل هو المنظومة بمعنى الرؤية وليس النظام بشخوصه ومؤسساته.
الشاهد ان ذلك الحوار على أهميته لم يستمر طويلا، نظرا لحساسية الفكرة وصلتها الوثيقة بأوضاع مراكز القوى فى السلطة. من ثم فقد تم اختصار حلقاته وطى صفحته. وفى النهاية وجدنا ان الأمر لم يؤخذ على محمل الجد، حتى لم يعد للدعوة ذكر الآن.
الأمر اختلف مع فكرة الثورة الدينية التى ارتجلها الرئيس السيسى أثناء خطابه. ذلك أنه ما ان اطلقها حتى هرول الجميع لتفعيلها والاحتفاء بها، وتحويلها إلى شعار ومنعطف مهم فى مسيرة الأزهر وتاريخ الفكر الدينى.
بكلام آخر فإنه حين تعلق الأمر بالحوار الجاد فى السياسة فإن الكلام كان حذرا ومبتورا وتم اختصاره وتجاوزه بسرعة. أما حين تعلق بالدين، ولو على سبيل المصادفة، فقد أخذ الجميع راحتهم فيه حتى تطوع كل صاحب رأى فى الإسهام بدلوه لتحقيق الثورة المنشودة. ولم يقف الأمر عند حدود تقليب صفحات الماضى واستحضار تاريخ الثورات الدينية فى العالم، لكننا فى «الزفة» طالعنا خلاصة للكتاب ترجم حديثا ألفه باحث إيرانى مقيم فى فرنسا اسمه داريوش شايجان كان سؤال الغلاف الذى تخيره عنوانا هو «ما هى الثورة الدينية»، وانطلق فيه من إعلام إفلاس الفكر الدينى الإسلامى وفشله فى التفاعل مع العصر.
الأزهر من ناحيته سارع إلى الاستجابة لدعوة السيسى، فتحدث وكيله الشيخ عباس شومان عن توجهات أصدرها الإمام الأكبر أحمد الطيب، لوضع خطط عاجلة لتنفيذ ما طلبه الرئيس. خصوصا فى مجال إصلاح مناهج التعليم الدينى وتطوير الخطاب الدينى، مضيفا أنه تم تشكيل لجان برئاسته لاستكمال عناصر تصحيح الخطاب الدينى «بما يقوى روح الانتماء للوطن، ويعكس صورة مشرفة للإسلام فى العالم الخارجى».
بنفس السرعة أعلنت دار الإفتاء عن تبنيها لدعوة الرئيس، فذكرت أنها وضعت خطة مكثفة لنشر «الثقافة الافتائية الصحيحة» والتوسع فى أول مرصد «فتاوى التكفير» ومقولاته لمواجهة الأفكار المتطرفة، ذلك إلى جانب الإعداد لإطلاق أول قناة على اليوتيوب للدفاع عن سماحة الإسلام واعتداله، وإلى جانب مشروعها لإعداد دورات تدريبية للمبعوثين لإعدادهم للمهمة التى يقومون بها فى بلدانهم، فإن دار الإفتاء ستبدأ خدمة جديدة بتدشين دار الإفتاء المتنقلة التى ستجوب محافظات مصر لإرشاد المسلمين والرد على استفساراتهم المتعلقة بأمورهم الدينية.
لم يتخلف وزير الأوقاف عن الركب، ذلك انه ما ان اطلق الرئيس دعوته حتى عقد الوزير اجتماعا عاجلا مع مساعديه لوضع الخطط اللازمة للنهوض بمسئوليات الثورة المنشودة، على أن تقوم المساجد بدورها فى هذا الصدد، سواء من خلال إعداد دورات تثقيفية للأئمة أو توجيه الخطباء لإيصال الرسالة إلى جماهير المصلين خصوصا فى أيام الجمع.
لم أتحدث عن الإسهامات التى أغرقت أعمدة الصحف وأفاضت فى الهاتف لدعوة الرئيس وتقديم المقترحات لإنجاحها. وهو السباق الذى تصور كثيرون ان المشاركة فيه باتت فرض عين على كل صاحب قلم. فضلا عن ان الصحف لم يكن بمقدورها ان توقف تدفق الكتابة فيه، لأن أحدا لم يكن يجرؤ لإيقاف سبل المحتفين بكلام الرئيس وثورته الجديدة.
الخلاصة التى يخرج بها المرء من المقارنة بين الدعوتين أن أبواب التهليل والتهريج وحدها مفتوحة على مصارعها. أما الكلام الجاد فى الإصلاح فأوانه لم يحن بعد، لا فى شئون الدنيا ولا فى شئون الدين. وهو ما ينبهنا إلى حاجتنا الملحة لمناخ ديمقراطى حقيقى يتيح لنا أن نتحمل بشجاعة مسئولية ذلك الكلام الجاد فى الأمرين معا. وما لم نستطع توفير ذلك المناخ قبل أى شىء آخر فلا أمل فى إصلاح الدنيا أو الدين.