توظيف الشريعة للقمع

توظيف الشريعة للقمع

المغرب اليوم -

توظيف الشريعة للقمع

فهمي هويدي


حين نريد أن نمارس القمع وتكميم الأفواه تصبح الشريعة هى الحل. من هذه الزاوية فإن الإضراب عن العمل يعد حراما لأنه مفسدة تعطل مصالح الخلق والإضراب عن الطعام منهى عنه شرعا بنص الحديث لا ضرر ولا ضرار. والتظاهر يصبح إفسادا فى الأرض والمعارضة تعد إثما ينتهك الأمر بطاعة ولى الأمر. والنقد دعوة إلى الفتنة والمخالفون خوارج. أما تأييد أحكام الاعدام فيستند فى مرجعيته إلى فكرة «الحرابة»..إلخ يحدث ذلك عندنا وعند بعض الأشقاء.

الملف يفتحه الحكم الذى صدر عن المحكمة الإدارية العليا أخيرا (فى ١٨/٤/٢٠١٥) بخصوص إضراب بعض العاملين فى إحدى الوحدات المحلية بمحافظة المنوفية عن العمل. ذلك أنه ضمن حيثياته إشارة إلى أن الإضراب حرام «لأن الشريعة لا تجيز توقف عمال المرافق العامة عن تقديم الخدمة التى تقدمها إلى الجمهور».. وهى «لا تبيح هذا المسلك لا بما فيه إضرار بالناس فحسب، بل لأنه يعد تمردا على السلطة الرئاسية فطاعة الرئيس واجبة». وقررت المحكمة بعد إيراد حيثياتها إدانة المتهمين بالإضراب، فحكمت بإنهاء خدمة ثلاثة وإحالتهم إلى التقاعد ومجازاة ١٤ متهما بتأجيل ترقية كل منهم لمدة سنتين.

الحكم يستدعى عندى ثلاث ملاحظات هى:
* إنه وأمثاله مما سبقت الاشارة إليه من قبيل الاحكام التى تعمد إلى الانتقاء والتأويل الذى يوظف لخدمة أهداف سياسية.

وفى الحالة المصرية مثلا فإنه فى الوقت الذى أصبح فيه مصطلح الشريعة مثيرا لدرجات مختلفة من الاستياء والنفور بسبب التعبئة الإعلامية المضادة التى عبرت عن الصراع السياسى الذى تشهده البلاد. فإننا نفاجأ بالزج بمرجعية الشريعة فى الاحكام القضائية التى يراد بها معاقبة الخصوم والمعارضين. الأمر الذى وضعنا أمام مشهد لا يخلو من مفارقة فى ظله أصبحت الشريعة منبوذة فى الاعلام ومستهجنة فى بعض دوائر المثقفين. لكنها مرغوبة فى أحكام القضاء التى تخدم السياسية وتؤيد خطواتها. وكانت النتيجة اننا لم نعد نرى فى الاحكام الشرعية والمصطلحات ذات المرجعية الدينية سوى انها من ادوات قمع المعارضين والتنكيل بهم. وتلك ابلغ اساءة للشريعة فى حقيقة الأمر. الذى لا يقل سوءا عن ذلك أن التأويلات التى تستدعى القضايا المنظورة أغلبها إن لم يكن كلها مشوب بالفساد ومردود عليه، فالإضراب عن العمل حتى إذا ادى إلى تعطيل بعض المصالح لبعض الوقت ــ ليس بالضرورة مفسدة خالصة، لأنه قد يكون الدافع إليه هو رفع ظلم بالموظفين لم يكن هناك سبيل آخر لرده.

* إنه فى عام ١٩٨٦ دعا قادة وعمال السكة الحديد إلى اضراب عام عن العمل حتى تستجيب الحكومة لمطالبهم، مما ادى إلى توقف خطوط السكة الحديد آنذاك. وقد تم القبض على اربعين شخصا منهم وقدموا إلى محكمة الجنايات، حيث نسبت اليهم النيابة ثلاث تهم هى: تعمد تعطيل سير قطارات السكة الحديد ـ الاضرار بمصالح الدولة وتكبيد السكة الحديد خسائر قدرت بنحو ٣٠٠ ألف جنيه ــ استعمال العنف والتهديد مع موظفين عموميين آخرين لمنعهم من أداء عملهم. وقتذاك اثارت القصة الرأى العام وتقدم نحو ٢٥ من أبرز المحامين المصريين للدفاع عن حق العمال فى الاضراب. وفى شهر ابريل (أيضا) من عام ١٩٨٧ اصدر المستشار محمد أمين الرافعى رئيس محكمة جنايات امن الدولة العليا حكما تاريخيا أيد فيه حق العمال فى الاضراب، ومن أهم ما استند اليه القاضى الجليل ــ الذى ينتمى إلى عصر الشوامخ ــ ان مصر وقعت على الاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التى تلزم الدول الموقعة بأمور عدة بينها كفالة الحق فى الاضراب. وبهذا التوقيع بعد التصديق عليه صارت الاتفاقية جزءا من التشريع المصرى واجب التطبيق «تضمن دستورا ٢٠١٢ و٢٠١٤ نصا صريحا يعتبر الاضراب حقا ينظمه القانون».

الحكم لم يأخذ المستشار الرافعى بكلام أحد شهود الإثبات لأن أقواله تمت بضغط من أحد ضباط المباحث الذى هدده بتشريد أولاده. وذكر أن المحكمة استقر فى وجدانها أن ذلك الإضراب ما كان يحدث من تلك الفئة من العمال وقد كانت مثالا للالتزام والتضحية إلا بعدما أحست بالتفرقة فى المعاناة والمعاملة عن كاهل فئات الشعب حتى لا يستفحل الداء ويعز الدواء. وبنى القاضى على ذلك أن التهم المسندة إلى المتهمين جميعا تخاذلت فى أساسها القانونى والواقعى وتفرقت لذلك أركانها، الأمر الذى يرتب براءة المتهمين جميعا مما نسب إليهم (١٦/٤/١٩٨٧).

خلاصة 
* خلاصة الملاحظة الثالثة أن اللجوء إلى تأويلات بذاتها للاتكاء عليها وإضفاء مرجعية شرعية على الأحكام والقرارات التى تبرر القمع وتصادر الحريات العامة يسلط الضوء على تهافت الإدعاء بمخاطر تدخل الدين فى السياسة؛ لأن المشكلة الحقيقية عكسية تماما.

أعنى أن جوهر المشكلة يكمن فى سعى السياسيين إلى توظيف الدين لخدمة أهدافهم وليس العكس؛ لأن المتدينين حين يعبرون عن آراء سياسية فى كلامهم فإن ذلك قد لا يقدم ولا يؤخر. وقد لا يتجاوز أثره إحداث بعض الأصداء فى الفضاء العام. لكن السياسيين حين يستخدمون ورقة الدين فإنهم يملكون سلطانا يمكنهم من فرض ما يريدون على الناس.

ولأن الفصل بين الدين والسياسة متعذر من الناحية العملية ولأننا لا نستطيع أن نمنع المتدينين من الكلام فى السياسة شأنهم فى ذلك شأن غيرهم من المواطنين العاديين، فإن المطلب الأكثر معقولية وجدوى هو أن نطالب السياسيين بأن يرفعوا أيديهم عن الدين ويكفوا عن التلاعب بأحكامه ــ والله أعلم.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

توظيف الشريعة للقمع توظيف الشريعة للقمع



GMT 18:19 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

مسرح القيامة

GMT 18:15 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان... و«اليوم التالي»

GMT 18:09 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

لماذا توثيق «الصحوة» ضرورة وليس ترَفاً!؟

GMT 18:05 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

جهود هوكستين: إنقاذ لبنان أم تعويم «حزب الله»؟

GMT 18:00 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

ذكرى شهداء الروضة!

GMT 17:54 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

الشريك المخالف

GMT 17:52 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

كفاءة الحكومة

GMT 17:49 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

اليوم العالمى للقضاء على العنف ضد المرأة

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ المغرب اليوم

GMT 17:18 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

روسيا تتعاون مع الحوثيين لتجنيد يمنيين للقتال في أوكرانيا
المغرب اليوم - روسيا تتعاون مع الحوثيين لتجنيد يمنيين للقتال في أوكرانيا

GMT 15:24 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة
المغرب اليوم - أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة

GMT 18:33 2024 السبت ,26 تشرين الأول / أكتوبر

نقاش فلاحي يجمع المغرب وإسبانيا

GMT 06:29 2015 الأربعاء ,09 كانون الأول / ديسمبر

منفذة هجوم كاليفورنيا تعلمت في مدرسة دينية باكستانية

GMT 21:33 2021 الخميس ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

البدلة السوداء خيار كلاسيكي للرجل الأنيق

GMT 00:08 2018 الإثنين ,19 شباط / فبراير

تعرفي على حيل لزيادة مساحة "الغرف الضيقة"

GMT 08:16 2017 الجمعة ,13 تشرين الأول / أكتوبر

أبرز المعالم السياحية في مدينة صوفيا البلغارية

GMT 09:01 2020 الجمعة ,09 تشرين الأول / أكتوبر

تعرف على Sorento الجديدة كليا من كيا
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib