ترزية التاريخ

ترزية التاريخ

المغرب اليوم -

ترزية التاريخ

فهمي هويدي

من يتابع ما نشرته وسائل الإعلام المصرية خلال الأيام السابقة على حلول ذكرى فض اعتصام رابعة (أمس ١٤ أغسطس) لا تفوته ملاحظة أن الذى قيل هذا العام هو ذاته الذى قيل فى العام السابق مع بعض الإضافات القليلة. فقد تكرر الكلام عن التحريض ضد الجيش والشرطة، وتخزين السلاح، ومبادرة المعتصمين إلى مهاجمة الشرطة التى «اضطرت» إلى استخدام السلاح دفاعا عن النفس.. إلخ. إلا أن متحدثا على أحد القنوات ذهب إلى أبعد يوم الأربعاء الماضى ١٢/٨، حين قال إن المعتصمين سهلوا الدعارة وأقاموا خياما للنكاح، كما أقاموا خياما أخرى لتيسير تعاطى المخدرات. وكان ذلك اكتشافا جديدا لم يذكر من قبل وانفرد به المتحدث «حصريا». لا يهم أن يكون القائل فى هذه الحالة مديرا سابقا لاتحاد كرة القدم، لأن الأهم أن الكلام جرى بثه تليفزيونيا، وأن المجال والأجواء العامة باتت تحتمل الترويج لمعلومات من ذلك القبيل.
لأن معالجات الحدث فى الإعلام تتم فى ظل الظروف التى تعرفها، فإن الأمر يمكن أن يكون مفهوما. ذلك أن أى متحدث بات بوسعه أن يطلق العنان لخياله، ويأخذ راحته فى تقييم ما جرى والمزايدة على الجميع فى عرض الوقائع. ولا تثريب عليه فى ذلك ولا لوم؛ إذ طالما أنه راكب للموجة ومدرك لاتجاه الريح فإنه سيظل فى السليم. حتى إشعار آخر على الأقل. والأمر كذلك. فليس مستغربا أن يعيد المتحدثون والمعلقون سرد ما قالوه فى العام الماضى بتفاصيله وأحيانا بنصه. ويظل الباب مفتوحا على مصراعيه لزيادة العيار حبتين أو أكثر ـ كما نقول ـ بحيث يتم التصعيد فى الدرجة مع ثبات الحفاظ على النوع. ولأن الأمر كذلك فإننى أستطيع أن أسجل الآن مضمون وعناوين ما ستنشره أو تبثه وسائل الإعلام حين تحل المناسبة فى العام القادم طالما ظلت الأوضاع السياسية كما هى. خصوصا أننى أتصور أن جعبة الهجاء أفرغت ما فيها، إذ بعد إضافة تسهيل الدعارة وتعاطى المخدرات فى سيناريو العام الحالى، فإن خيالى لا يتوقع أكثر من ذلك فى سيناريو العام القادم أو الذى يليه.
ليس عندى أى دفاع عما جرى فى رابعة سواء من جانب المعتصمين أو الذين فضوا الاعتصام. لكن أستطيع أن أقرر أمرين، الأول أننا نقرأ وقائع الحدث من وجهة نظر واحدة، هى بالدرجة الأولى وجهة نظر النظام القائم والمؤسسة الأمنية، فى حين لن يتاح لأى باحث منصف أو محلل موضوعى أن يكوِّن رأيا إلا بعد أن يستمع إلى وجهة النظر الأخرى التى هى مغيبة ومحجوبة فى الوقت الراهن. الأمر الثانى أن هناك اختلافا فى توصيف ما جرى. يختلف باختلاف موقع المتحدث. فالضحايا والحقوقيون المستقلون يصفونه بأنه «مذبحة»، أما الموالون للسلطة، وهم الأغلبية الساحقة فى وسائل الإعلام، فإنهم يصفونه أحيانا بأنه موقعة، ومنهم من يعتبره عدوانا على الشرطة والجيش. أو حلقة فى مسلسل إشاعة الفوضى لإسقاط الدولة.
النقطة التى تهمنى فى الموضوع هى أن التاريخ المعتمد والموثوق فيه هو وحده الذى تتجرد كتابته من الهوى السياسى. وإذا كان معلوما أن الحقيقة تظل أولى ضحايا الصراعات فإنه فى المجتمعات غير الديمقراطية بوجه أخص يصبح ذلك التجرد فى كتابة التاريخ مستحيلا، ذلك أنه لابد أن يستلهم وجهة نظر السلطة ويعبر عنها. بحيث يصنف الكتاب فى هذه الحالة ضمن «ترزية التاريخ»، وهو ما أبرزه جورج أورديل فى روايته الشهيرة (١٩٨٤) الذى صور فيها واقع إنجلترا إذا ما خضع لحكم النازى. وكانت «وزارة الحقيقة» هى التى تكتب التاريخ وتتولى صياغة وقائعه بحيث يظل «الأخ الأكبر» هو محوره ومحركه دائما.
أشرت من قبل عما قرأته بخصوص التجربة الإسبانية. ذلك أن إسبانيا خضعت لحكم الجنرال فرانكو فى أعقاب الحرب الأهلية بين الجمهوريين واليمينيين التى استمرت بين عامى ٣٦ و٣٩، وخلال سنوات حكمه التى استمرت حتى عام ١٩٧٥ فإن الرجل فرض على المجتمع روايته لوقائع وسنوات الصراع بين الجانبين، حيث أدى الجمهوريون فيها دور الشيوعيين الأشرار فى حين قدم اليمينيون باعتبارهم المنقذين والطيبين والأبرار.
وحين مات الرجل فى ذلك العام كان المجتمع منقسما بحيث بدا أن ذلك الانقسام الذى هدد الوحدة الوطنية يشكل عقبة فى سبيل إقامة الديمقراطية فى البلاد. وأدركت النخبة الحاكمة أن الطريق إلى تحقيق الوحدة المنشودة وإعادة الاصطفاف الوطنى لا سبيل إلى تحقيقهما إلا بإعادة كتابة التاريخ الحقيقى والصحيح للمجتمع الإسبانى. ولتحقيق ذلك الهدف شكلت عدة لجان وعقدت جلسات استماع تحدث فيها الشهود الأحياء وانتهى الأمر بطى صفحة التاريخ الذى روج له فرانكو وجماعته، وتم التوافق على رواية للحقائق كما كانت وليس كما صاغتها آلته السياسية.
الشاهد أنه فى المجتمعات غير الديمقراطية فإن الطرف المتغلب ـ شأن أى منتصر ـ هو الذى يكتب التاريخ أما فى ظل الديمقراطية فإن المجتمع هو الذى ينهض بتلك المهمة من خلال أهل الاختصاص والخبرة الذين ينتخبهم. بسبب من ذلك فأزعم أننا سنحتاج إلى وقت طويل نسبيا لكى نقرأ التاريخ الحقيقى للأحداث التى أعقبت ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ وليس لاعتصام رابعة والنهضة فحسب. ورغم الجهد المتميز الذى بذلته لجنتا تقصى حقائق أحداث ثورة ٢٠١١ ومرحلة حكم المجلس العسكرى، إلا أن ذلك الجهد الذى جرى التعتيم عليه يغطى مرحلتين فقط من مسيرة ما بعد الثورة. ولايزال الغموض يكتنف المراحل الأخرى. وإلى أن تستعيد مصر انخراطها فى المسار الديمقراطى فإننا سنظل نستقبل ما يجرى الترويج له باعتباره القراءة السياسية للتاريخ كما يراها الطرف المتغلب. وليس القراءة الواقعية المجردة عن الهوى التى تتحرى الحقيقة بخيرها وشرها ولا تميز بين الغالب والمغلوب.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ترزية التاريخ ترزية التاريخ



GMT 19:34 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

ليس آيزنهاور

GMT 19:31 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

والآن الهزيمة!

GMT 19:28 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

مسؤولية تأخر قيام دولة فلسطينية

GMT 19:22 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

... عن «الممانعة» و«الممانعة المضادّة»!

GMT 19:19 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

واشنطن... وأرخبيل ترمب القادم

GMT 19:16 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

فريق ترامب؟!

GMT 19:14 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

مفاجأة رائعة وسارة!

GMT 18:02 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

الاحتفاء والاستحياء

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 00:54 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

روحي فتوح لتولّي رئاسة السلطة الفسطينية حال شغور المنصب
المغرب اليوم - روحي فتوح لتولّي رئاسة السلطة الفسطينية حال شغور المنصب

GMT 22:21 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله
المغرب اليوم - ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله

GMT 04:55 2018 الثلاثاء ,07 آب / أغسطس

" Chablé" يمثل أجمل المنتجعات لجذب السياح

GMT 07:57 2018 الثلاثاء ,06 آذار/ مارس

أسوأ من انتخابات سابقة لأوانها!

GMT 20:53 2015 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

شجار بالأسلحة البيضاء ينتهي بجريمة قتل بشعة في مدينة فاس

GMT 22:28 2020 الجمعة ,25 أيلول / سبتمبر

ولي عهد بريطانيا يقدم خطة لإنقاذ كوكب الأرض

GMT 05:06 2018 السبت ,15 أيلول / سبتمبر

"Hublot" الخزفية تتصدر عالم الساعات بلونها المثير

GMT 09:11 2018 الإثنين ,03 أيلول / سبتمبر

فتاة منتقبة بطلة فيلم "ما تعلاش عن الحاجب"

GMT 07:11 2018 السبت ,25 آب / أغسطس

فولكس" بولو جي تي آي" تتفوق على "Mk1 Golf GTI"
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib