فهمي هويدي
من بين التشوهات التى أصابت وعى البعض فى مصر أنهم أصبحوا يحاسبون الفنانين والشعراء والعلماء ونجوم الرياضة على آرائهم السياسية وليس على عطائهم وإبداعهم الذى قدموه. يحدث ذلك رغم أن آراءهم السياسية تشكل صفحة واحدة فى سجلهم، ولا تقدم أو تؤخر من الناحية العملية، فى حين أن عطاءهم يضيف الكثير من المتعة والبهجة والمعرفة إلى حياتنا. أقول ذلك بمناسبة ما عبرت عنه أصوات بعض عناصر المعارضة من شماتة وتنديد بالشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى الذى توفاه الله يوم الثلاثاء الماضى فى ٢١/٤.
استفزتنى تلك الشماتة حيث اعتبرتها موقفا طفوليا غير لائق من الناحيتين الأخلاقية والإنسانية، حيث للموت جلاله واحترامه. ليس ذلك فحسب، وإنما اعتبرته ظلما كبيرا للرجل، هون من شأنه وأبخسه حقه من وجهة النظر الموضوعية والسياسية والتاريخية، إذ حين ينسى ويتجاهل ما قدمه الأبنودى من إبداع خلال الأربعين سنة الماضية، ثم يختزل عطاؤه فى مواقفه السياسية خلال السنوات الأربع الأخيرة. التى أيدها البعض واستنكرها آخرون، فإن ذلك لا يعد من الانصاف فى شىء.
ليس عندى دفاع عن آراء الأبنودى السياسية، لكننى أعتبره زعيما لا يشق له غبار فى الشعر الشعبى، وعلى قصور باعى فى النقد الأدبى، فإننى أصنفه فى الصف الأول من نجوم ذلك الفن الجميل، جنبا إلى جنب مع بيرم التونسى وصلاح جاهين وأحمد فؤاد نجم وسيد حجاب وفؤاد حداد وأمثالهم من أصحاب القامات الشعرية الرفيعة. وطالما أنهم لم يقدموا أنفسهم كنشطاء سياسيين، وطالما أنهم لم ينحازوا إلى عدو للوطن، ولم يتاجروا بفنهم ولم يوظفوه لأجل النفاق والانتهازية الرخيصة، فكل خلاف معهم بعد ذلك يهون، ويتعين احترامه واحتماله. وفى كل الأحوال فطالما ان الشاعر أو الفنان يعبر عن اقتناعه الشخصى، اتفقنا معه أو اختلفنا فلا تثريب عليه ولا لوم.
هذا الذى أدعو إليه ليس اختراعا جديدا، وإنما هو من سمات المجتمعات المتحضرة والسياسات الرشيدة التي تغتني بالتنوع والاختلاف.
ما حدث مع الأبنودى الذى نسى البعض إبداعه وتذكروا فقط تأييده للرئيس السيسى تكرر مع أحمد فؤاد نجم الذى عبر هؤلاء عن شماتتهم فى وفاته بسبب اختلافهم السياسى معه، وليس ذلك استثناء للأسف الشديد لأن ذلك السلوك تحول إلى ظاهرة أدت إلى التضييق على بعض المبدعين بسبب الاختلاف مع آرائهم السياسية (السيناريست بلال فضل مثلا) وإلى تشويه صورة عدد غير قليل من المثقفين النادرين (طارق البشرى مثلا) ناهيك عن عدد من العلماء من عمداء وأساتذة الجامعات إلى جانب عدد آخر من كبار القضاة الذين تم اقصاؤهم واضطهادهم بسبب شبهة الاختلاف مع آرائهم السياسية، ودون أى اعتبار لعطائهم وقيمتهم العلمية والأخلاقية.
الظاهرة تحتاج إلى تحليل، فى هذا الصدد فإننى أزعم أن وراءها عاملين أساسيين، الأول هو: غياب ثقافة، احترام الآخر والقبول بالاختلاف، والثانى يتمثل فى المدى الذى ذهب إليه الاستقطاب فى مصر، ذلك أننا مازلنا ننظر بتوجس وامتعاض إلى أصحاب الرأى المغاير والمخالف، ونعتبر أن موقفهم ذاك راجحا إلى الجحود والعداء الشخصى، وذلك أمر شائع ومفهوم فى المجتمعات غير الديمقراطية. تلك التى تعودت على الرأى الواحد، وغدا الاختلاف فيها من المنكرات المذمومة. لذلك فإن الآخر المختلف ينظر إليه لا بحسبانه صاحب وجهة نظر أخرى يمكن ان تكون مصدرا للإغناء أو التصويب أو التجويد ولكن باعتباره عدوا يجب إسكاته بقمعه والخلاص منه. وكما ان الصوفية التى تقوم على انقياد المريد للشيخ يعتبرون أن «من اعترض انطرد»، فإن المجتمعات غير الديمقراطية تطبق نفس الفكرة إذ يظل القبول والانصياع هو المطلوب من المواطن «الصالح» الذى يراد له ان يصبح «مريدا» للسلطة وليس مواطنا له حق الاختلاف والاتفاق.
إذا أضيف الاستقطاب الذى يقسم المجتمع إلى غياب ثقافة الاختلاف، فإن الأمر يصبح أكثر حدة وتعقيدا، وللأسف فإن ذلك هو الحاصل فى مصر. ذلك ان الاستقطاب حين غذَّاه ضيق صدر السلطة وأججه الإعلام بغلوه وجموحه، فإنه أسهم بدور لا ينكر فى تشويه المدارك والضمائر. وهو ما سحب الكثير من توازن البعض ومن إنسانية البعض الآخر. ومما يؤسف له ان تلك التشوهات أصابت عددا من المثقفين الذين أبدوا استعدادا مذهلا للتراجع عن أفكار ومبادئ طالما بشروا بها ودافعوا عنها لأجل تصفية حساباتهم مع مخالفيهم، وكانت النتيجة انهم اصطفوا إلى الجانب المعارض للحريات والداعى إلى القمع وممارسة مختلف الانتهاكات التى تستبيح المخالفين وتسعى لاستئصالهم.
سواء صح ذلك التحليل أم لم يصح فإن الشماتة فى وفاة المبدعين أيا كان اتجاههم وموقفهم الفكرى يعد انتصارا للجهل ولثقافة الكراهية، ناهيك عن أنها من تجليات الغباء السياسى، الذى يفضح أصحابه ويسحب من رصيد الثقة فيهم.