فهمي هويدي
فى المكسيك قاموا بتركيب كاميرات فى الشوارع لضبط الذين يلقون فيها القمامة والنفايات، وفى مصر قررت وزارة الأوقاف تركيب كاميرات فى المساجد الكبرى لمراقبة المصلين. الخبر الأول نقلته الوكالة الفرنسية من العاصمة المكسيكية «مونتيرى»، وذكرت فيه أن رئيس إحدى البلديات فى شمال البلاد (بلدية سان نيكولا دى لوغارزا) وجد أن أفضل وسيلة لضمان نظافة المدينة هى تركيب تلك الكاميرات لالتقاط صور المخالفين لفضحهم من خلال وضع الصور فى «لوحات الخزى» لكى يصبحوا محل ازدراء المجتمع واحتقاره. وهذا الإجراء لجأ إليه بعدما لم تفلح الغرامات وحملات التوقيف فى ردع المخالفين. ذلك أن النظام المتبع يقضى بتجميع النفايات كل صباح بواسطة شاحنات يعلن على السكان وصولها بحيث يخرج كل منهم لوضع نفاياتهم فيها، إلا أن البعض يستسهل إلقاء النفايات فى الشوارع أثناء الليل لتتولى الشاحنات نقلها بعد ذلك. وفى ظل الوضع المستجد فإن الكاميرات سترصد صور هؤلاء لمعاقبتهم بالغرامة والتوقيف. لكنه إذا ارتكب المخالفة ثلاث مرات فسوف تعلق صورته فى إحدى لوحات الخزى، التى كتبت عليها عبارة تقول: تم إيقافه بسبب وساخته!
الخبر الثانى نشرته جريدة الشروق يوم الجمعة الماضية (١٤/٨)، حيث أبرزته على صفحتها الأولى تحت العنوان التالى: الأوقاف تتابع المساجد الكبرى بكاميرات لمراقبة الأئمة. وفى الخبر أن وزارة الأوقاف أصدرت بيانات ذكر أنها اتخذت هذه الخطوة التى أبلغت بها المديريات الفرعية ضمن خطة لرصد الحركة فى المساجد خاصة من قبل الجماعات المتشددة. وأشار البيان إلى أن البنوك والشركات و«المولات» تقوم بتركيب الكاميرات للمراقبة ولا أحد يعتبر ذلك انتهاكا. ذكر البيان أيضا أن القرار سيتم تطبيقه بالمساجد الكبرى فى القاهرة التى توجد بها صناديق للنذور يخشى تعرضها للسرقة. وسيطبق بعد ذلك بالمساجد الكبرى بالمحافظات تمهيدا للتوسع فى تطبيق القرار على جميع المساجد بعد ذلك.
قبل التعليق على الفكرة لدى ملاحظتان على بيان وزارة الأوقاف. الأولى أن المقارنة بين المساجد والبنوك والشركات والمولات فى غير موضعها، لأن جمهور الذاهبين إلى المساجد له مقاصد مختلفة تماما عن عملاء البنوك والشركات. وإذا كان تأمين الأخيرين مفهوما إلا أن تصوير الأولين مستغرب. الملاحظة الثانية أن البيان أعطى انطباعا فى البداية بأن الغرض من التصوير فى المساجد هو حماية صناديق النذور من السرقة، ثم ذكر بعد ذلك أن التجربة ستعمم على كل المساجد، الأمر الذى يعنى أن الحديث عن تأمين صناديق النذور مجرد ذريعة لتغطية هدف مراقبة المصلين، علما بأن مراقبة الخطباء والأئمة ليست واردة ولا تحتاج إلى كاميرا لأن خطب الجمعة تسجل على الخطباء بوسائل أخرى، وليس هناك ما يبرر أن تسجل بالصورة فضلا عن الصوت. ولا تنس أن الخطيب ما عاد يعتلى منبره إلا بعد الحصول على تصريح يسمح له بذلك. ولا تصدر التصاريح إلا بعد اتخاذ التحريات اللازمة، ناهيك عن أن الخطبة ذاتها معروف موضوعها وأولها وآخرها مسبقا. وإذا صح هذا التحليل فهو يعنى أن الهدف الحقيقى من العملية هو مراقبة المصلين فقط.
فكرة تركيب الكاميرات فى الأماكن العامة ليست جديدة، ذلك أنها منتشرة حقا فى المحال التجارية والأسواق فضلا عن الشوارع المهمة. وهو ما يتم لأسباب أمنية مفهومة. لكن تركيبها فى المساجد أمر غير مألوف (ليس معروفا وضع الكنائس فى هذه الحالة). وقد قيل لى إن الجامعات باتت تحفل بمثل تلك الكاميرات التى تراقب الطلاب وتصور المتظاهرين ومنظميها. وذلك بدوره أمر غير مألوف. وإذا كانت الكاميرات التى يتم تركيبها فى الأماكن العامة يرد بها حماية المشروعات الاقتصادية وتأمين المجتمع ضد الخارجين على القانون، فإن التوسع فى العملية والذهاب إلى حد تصوير المصلين رواد المساجد أو تصوير الطلاب فى الجامعات أمر لا يفسر إلا بأنه نوع من ترهيب ناقدى النظام ومعارضيه، الأمر الذى يشيع حالة من الخوف بين المصلين وطلاب الجامعات. ولك أن تتصور النتائج المترتبة على إشاعة ذلك الخوف. ذلك أننى سمعت من أحد الموظفين قوله إنه قرر ألا يؤدى الصلوات فى المسجد القريب من بيته الذى اعتاد على أن يتردد عليه كلما سنحت له الفرصة. ولكى يتجنب أن يصبح محلا للاشتباه أو المساءلة فإنه قرر الاكتفاء بأداء صلاة الجمعة فيه فقط. ولن يؤديها فى مسجد واحد أخذا بالأحوط، وإنما سيختار مسجدا مختلفا فى كل مرة.
تخويف طلاب الجامعات له آثاره الأسوأ فى المدى البعيد. ذلك أن هؤلاء الذين يراد تكميمهم وتدجينهم وهم فى سنوات الدراسة يفترض أنهم قادة المستقبل الذين تعلق عليهم الآمال فى الغد الأفضل. وحين يجرى تشويههم وإخصاؤهم من الآن فإنهم سيصبحون عبئا على المستقبل وأحد مصادر النكوص وخيبة الأمل.
إن المصلى الذى يخاف الله حين يدرك أن الكاميرات تراقبه سيصبح ضحية الخوف من الحكومة. وطالب الجامعة الذى يخضع للمراقبة سيتحول إلى فأر مذعور لا شخصية له ولا رأى ولن يستشعر الأمان إلا إذا انبطح وصار جزءا من القطيع. هذا إذا لم يدفعه الخوف لأن يصبح مرشدا للأمن وجاسوسا على زملائه. ولا تنس أن دعوة من ذلك القبيل وجهت إلى طلاب الجامعات وصنف المستجيبون لها ضمن الطلاب «الوطنيين»!
لو ترك الحفاظ على الأمن لرجال الأمن ــ ولو صرف وزير الأوقاف الجهد الذى يبذله لرقابة المساجد والمصلين فى محاولة الارتفاء بمستوى الخطباء وتحسين الخدمة بالمساجد. ولو انشغل المديرون والعمداء بتحسين العملية التعليمية واستعادة الجامعات مكانتها الجليلة. لو أدى كل مسئول واجبه الوظيفى كما يجب، لكان للبلد شأن آخر. لكن أغلب أولئك المسئولين تحولوا إلى قيادات أمنية. وحولوا مسئوليهم إلى مرشدين ومخبرين واعتبروا ذلك معيارا للولاء والثقة ــ إننا نسرع الخطى على طريق الندامة.