الاحتقان في السعودية

الاحتقان في السعودية

المغرب اليوم -

الاحتقان في السعودية

فهمي هويدي

يعانى المجتمع من حالة احتقان طاغية وأزمات نفسية طاحنة. إذ ظهرت فى المشهد ظلمات فكرية وأحكام مسبقة لا تخلو من التنابذ والقذف. وظهرت فى قواميس بعض المشاركين فى الردود مصطلحات مليئة بالبذاءة. كما طغت على هذه الحوارات لغة الإقصاء والإلغاء والشخصنة. وبرزت ألفاظ العنف الرمزى. بل إن بعضها وصل لحد التهديد بالقتل، ناهيك عن التشكيك فى المعتقد لأن صاحبه خرج عن السائد والمألوف ومخالفة الواقع. وخلت المناقشات من أبجديات الحوار، وغابت وسائل الإقناع بصحة أو خطأ الآراء المطروحة وإيضاح ذلك بالحجة والأدلة.. ودفع المشهد إلى البحث عن هزة بغية الخروج من ذلك المأزق وتجاوز الأزمات الفكرية لتبديد الظلمات. من خلال مشروع يضبط الحوار ويجرم الإساءات، كما يوفر للحوار النزاهة المرجوة.

الفقرة السابقة بكاملها لا تصف مشهدا فى مصر أو العراق أو الجزائر أو أى بلد آخر مما اعتدنا ان نتابع فيه حدة الصراعات وشراستها. لكنها نص مقتبس من تقرير عن الحوار فى المملكة العربية السعودية، نشرته صحيفة «الشرق الأوسط» فى عددها الصادر فى 25/12. وإذا كانت الفقرة السابقة قد وردت فى مستهل التقرير ولخصت أجواءه وفكرته، فإن بقية المتن حفلت بالتفاصيل التى ترسم معالم الصراع الفكرى الذى تشهده المملكة، وفى ثناياها جرى الاستشهاد بما عبر عنه ذات مرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز حين قال فى كلمة له: اننى أرى انه لا يتناسب مع قواعد الشريعة السمحة ولا من متطلبات الوحدة الوطنية ان يقوم البعض بجهل أو بسوء نية بتقسيم المواطنين إلى تصنيفات ما أنزل بها من سلطان، فهذا علمانى وهذا ليبرالى، وهذا منافق وهذا إسلامى متطرف إلى غير ذلك من التسميات.

يفهم القارئ من التقرير المنشور ان الجدل اشتد بين أصحاب الاتجاهات المختلفة مع قرب انتهاء العام الميلادى واحتفال العالم برأس السنة الميلادية، بين الذين يحرمون تلك الاحتفالات وغيرهم من يشاركون فيها ويقبلون عليها. وقد عبر كاتب التقرير عن أسفه إزاء الجدل المثار حول الموضوع، واستشهد فى ذلك بما قبلت به السعودية قبل عدة عقود، حين كان بعض السعوديين «يقيمون الاحتفالات بهاتين المناسبتين بشكل علنى فى منازلهم. بل ان الصحف نشرت إعلانات على مطاعم وقاعات أفراح تحيى هذه المناسبة، فى حين تضطر بعض الأسر السعودية اليوم إلى السفر خارج البلاد للاحتفال بالمناسبة فى الدول العربية المجاورة أو فى أخرى». وللتأكيد على ذلك نشرت الصحيفة صورة إعلان جاء فى جريدة عكاظ عام 1973 يعلن عن عشاء ومفاجآت فى قاعة «الكوثر» بمناسبة رأس السنة الميلادية فى مطعم بالطابق الثانى عشر لإحدى بنايات مدينة جدة.

تفاجئنا الصورة التى نقلها تقرير «الشرق الأوسط»، لأنها من المرات النادرة التى تنقلها إحدى الصحف السعودية إلى العالم الخارجى، رغم اننا ظللنا نسمع كثيرا عن التجاذبات الحاصلة بين المكونات الفكرية لذلك المجتمع الذى يتصوره كثيرون ساكنا ومتناغما ومحصنا ضد الأفكار والتيارات التى تعتمل فى العالم الخارجى، أغلب الظن لأن التجاذب والتلاسن فيه لم يكن مسموعا خارج حدود المملكة، لكنه ظل يدور طول الوقت تحت السطح. إلا أن الوضع اختلف فى أجواء الربيع العربى التى كسرت حاجز الخوف والصمت. ووجد الجميع فى مواقع التواصل الاجتماعى متنفسهم وفرصتهم. ذلك انها وفرت لكل راغب منبرا وصوتا يستطيع ان يطلقه فى الفضاء العام ويعممه على الكافة. وإذ فاجأتنا الصورة التى طالعناها فإنها لا تصدمنا ولا تزعجنا. بالدرجة الأولى لأنها تعنى ان المجتمع السعودى ليس استثناء فى العالم العربى، وان الصراع الفكرى الحاصل فى مختلف الأقطار العربية له نظيره فى المملكة. وكل الذى حدث ان ما لم يكن مسموعا أو معلوما فى السابق، صار الآن مسموعا ومرصودا. وإذا كانت أدوات الصراع ولغته قد اتسمت بالخشونة والحدة، فذلك بدوره أمر طبيعى ولا غرابة فيه. لأن الشعوب تربى ولا تولد كاملة الأوصاف. وحين تغيب عنها ثقافة الحوار وقيمة التسامح وفقه الاختلاف والقبول بالآخر، فلا غرابة فى ان يتحول كل حوار فيها إلى تشاتم وعراك. ومما يثير الانتباه فى هذا الصدد ان السعودية تبنت الدعوة إلى تشجيع الحوار بين الأديان والحضارات وأقامت لأجل ذلك (فى عام 2012) مركزا عالميا فى فيينا، العاصمة النمساوية، فى حين إلى فكرة الحوار وتقاليده لم تستقر بعد فى داخل المملكة ذاتها.

هذا الذى حدث فى السعودية له نظيره فى دول الخليج الأخرى، ولكن تفاعلاته تجرى بعيدا عن الأعين وصوته غير مسموع بسبب الضغوط القوية والإجراءات القمعية التى تتخذ ضد أصحاب الآراء المغايرة. ورغم ان تلك الإجراءات تعد من قبل محاولة إيقاف عجلة التاريخ وحركته، إلا أن ذلك لا يغير من حقيقة ان المياه الراكدة فى تلك الأقطار بدأت تتحرك. ومن المهم للغاية ومن الحكمة وبعد النظر أيضا، أن يستقبل ذلك الحراك بتفاعل ايجابى يقوم على الترشيد والاحتواء. لأن سياسة القمع لا تشيع الخوف والتوتر فحسب، وانما تؤدى إلى اختزان المرارة والغضب، الأمر الذى يوفر بيئة مواتية لإشاعة التمرد واطلاق شرارة العنف. ومن المفارقات ان بعض تلك الدول تتنافس الآن فى الدعوة إلى محاربة الإرهاب، فى حين انها بسياساتها القمعية تزرع بذوره وترعاها حينا بعد حين.

"الشروق"

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الاحتقان في السعودية الاحتقان في السعودية



GMT 23:46 2024 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

القطب التيجاني... وحماية المستهلك الروحي!

GMT 23:34 2024 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

هل ستتفتح زهور الصين وتثمر في أفريقيا؟

GMT 23:31 2024 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

كيف نفسر البلطجة الإسرائيلية؟

GMT 23:26 2024 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

قصة وعِبرة!

GMT 23:21 2024 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

عن يمين وشمال

GMT 20:14 2024 الجمعة ,20 أيلول / سبتمبر

جوال قتّال

GMT 20:12 2024 الجمعة ,20 أيلول / سبتمبر

الدهناء وبواعث الشجن

ياسمين صبري بإطلالات أنيقة كررت فيها لمساتها الجمالية

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 23:49 2024 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

فيلم نادر يكشف سراً عن منى زكي
المغرب اليوم - فيلم نادر يكشف سراً عن منى زكي

GMT 22:07 2020 الإثنين ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

"عنكبوت" فيراري ينطلق بقوة 1000 حصان نسخة مكشوفة من SF90

GMT 08:20 2018 الإثنين ,02 إبريل / نيسان

يارا تظهر بإطلالة مثيرة في فستان أخضر مميز

GMT 11:17 2022 الأربعاء ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

سعر الريال القطرى أمام الجنيه المصرى اليوم الأربعاء 23-11-2022

GMT 14:49 2021 الخميس ,26 آب / أغسطس

4 ساعات غطس للرجل المغامر

GMT 03:18 2020 الأربعاء ,03 حزيران / يونيو

منظمة الصحة العالمية تزف بشرى سارة بشأن "كورونا"
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib