إذا وقعت الواقعة وبدأ هدم «بيت مدكور» الأثرى فى حى الدرب الأحمر بالقاهرة، فلن يكون ذلك مفاجئا. وإنما سيصبح شاهدا على أن مسلسل اغتيال الذاكرة التاريخية لايزال مستمرا.
جنبا إلى جنب مع محاولات طمس الوجه الحضارى للعاصمة المصرية. أتحدث عن اليأس والإحباط اللذين أصابا الغيورين على ذاكرة القاهرة، ممن بحَّت أصواتهم وهم يطالبون منذ أكثر من عام بالإبقاء على آخر أثر للتاريخ فى حى الدرب الأحمر، بعدما رفعت عنه الحصانة والحماية فى ظروف مريبة.
وصدر قرار بإزالته لتنتصب فى مكانه واحدة من العمارات الأسمنتية الكئيبة التى تحولت إلى طوفان ما برح يجرف ما تبقى من عمائر وجماليات القاهرة التاريخية. تماما كما هدمت بعض المتاحف وخربت بعض الحدائق لصالح مشروعات المقاهى والجراجات وغير ذلك من تجليات الجشع وفساد الذوق التى أصبحت عالية الصوت وقوية الحضور فى الأجواء الراهنة.
بيت مدكور الذى ينسب إلى أحد أعيان أو أمراء المماليك فى القرن التاسع عشر تفوح منه رائحة إبداعات التاريخ. رغم أن الزمن جار عليه وفعلت فيه الشيخوخة فعلها. إلا أنه لايزال شاهدا على العصر المملوكى الذى يمثل جزءا من تاريخ القاهرة وشخصيتها، علما بأن الشارع الذى أقيم فيه يرجع إلى القرن الرابع عشر. وقد سجل البيت باعتباره أثرا يتعين الحفاظ عليه فى عام ٢٠١٠، إلا أن قرارا صدر فى العام التالى أخرجه من دائرة الآثار وأوصى بهدمه بدعوى أنه معرض للانهيار. ومنذ ذلك الحين وحتى الآن والتجاذب مستمر حول مصير العقار الذى يتمدد فوق ٢٢٠٠ متر مربع. ورغم أن قرارا صدر فى عام ٢٠١٤ من قطاع الآثار الإسلامية والقبطية بوزارة الآثار أكد الطابع التاريخى للبيت، إلا أن ذلك لم يمنع إصرار الورثة على هدمه فى حين تعالت أصوات الداعين إلى إنقاذ القاهرة للتراجع عن إزالته، والإبقاء عليه باعتباره معلما أثريا، مع تعويض الورثة الراغبين فى الهدم. ويبدو أن تلك الجهود التى كان من بينها مناشدة رئيس الوزراء للتدخل فى الأمر، لم تحقق نجاحا، وأن ضغوط الاستثمار كانت أقوى. ومن ثم تقرر البدء فى هدم العقار اليوم (السبت).
إذا وقع المحظور وتم الهدم، فإن بيت مدكور سينضم إلى قائمة الأبنية التى جرى التضحية بها لأسباب يجمع بينها غياب الحس الحضارى وإهدار قيمة التاريخ والمعرفة. فى هذا الصدد تلقيت رسالة موجعة من خبير البيئة والسياحة الأستاذ محمود عبدالمنعم القيسونى حول المصير اليائس الذى أصاب ثلاثة متاحف مصرية حفلت بالكنوز النادرة والثراء الباذخ هى:
• المتحف الجيولوجى الذى بنى عام ١٩٠٢ فى شارع الشيخ ريحان بالقرب من ميدان التحرير. ومن الكنوز التى تضمنها هيكل كامل لحيوان خرافى من أكلة الأعشاب وصف بأنه وحش الفيوم (الأرسينوثيريوم) تشير الدراسات إلى أنه عاش هناك منذ ٢٨ مليون سنة. وهو أقرب إلى الخرتيت وأقدامه تشبه أقدام الفيل.
وقد تم اكتشافه فى أوائل القرن الماضى مع هيكل آخر تم إهداؤه إلى متحف التاريخ الطبيعى فى لندن. وأثناء الحرب العالمية الثانية قام المسئولون عن المتحف من خبراء مصريين وبريطانيين بنقل محتوياته النادرة ودفنها فى رمال الصحراء المتاخمة للعاصمة، لحمايتها من احتمالات القصف (أعيدت كلها بعد الحرب إلى مكانها). وكان من بين تلك المحتويات قطع من الكهرمان احتوت على حشرات منذ فجر التاريخ، وصخور نيزجية نادرة والعديد من الهياكل والحفريات التى عاشت على أرض مصر منذ ملايين السنين. هذا المتحف الذى كان فخرا لمصر وعلامة مضيئة على تراثها، تم هدمه منذ ٣٥ عاما لإقامة مترو الأنفاق. ورغم الإعلان آنذاك عن إقامة متحف آخر بديل إلا أن ذلك لم يحدث. ولم تكن تلك هى الكارثة الوحيدة، لأن الكارثة الأخرى التى لا تقل فداحة أن تلك الثروة الجيولوجية الهائلة نقلت إلى مخازن سابقة التجهيز تابعة لوزارة البترول على كورنيش النيل بالمعادى وضعت عليها لافتة «المتحف الجيولوجى». وزائر تلك المخازن ينتابه شعور بالخزى والعار لما آل إليه حال تلك الثروة النادرة، التى أصبحت ضحية الإهمال واللامبالاة. أما وحش الفيوم فقد عرضت رأسه فقط لأن المكان لا يسمح بعرض الهيكل كاملا. فى حين جرى تخزين بقية أجزاء الجسم فى صناديق مهملة.
• متحف العلوم الذى كان يقع فى وسط العاصمة (فى شارع البستان). وفيه كانت تعرض الاختراعات الحديثة إلى جانب التطبيق العملى لمختلف النظريات التى كانت تدرس بالمدارس.
وضم المتحف خلاصة جهد علماء وخبراء فى مختلف المجالات إلى جانب ما قدمته مؤسسات دولية عرضت أحدث التقنيات المطبقة فى العالم. هذا المتحف تم هدمه لصالح بناء جراج البستان متعدد الطوابق والمحال التجارية. أما تجهيزاته وأجهزته فقد ألقيت منذ أكثر من ٢٠ عاما فى مخزن مهمل بجوار استوديو مصر بمنطقة الهرم.
• متحف العادات والتقاليد المصرية الواقع داخل مبنى الجمعية الجغرافية المصرية الغنية بالكتب والخرائط النادرة، والذى يضم القاعة الذهبية الرائعة التى تم تشييدها فى عصر الملك فؤاد وهو يحتوى على قطع نادرة ارتبطت بالحياة اليومية للمصريين وبعاداتهم وتقاليدهم وتراثهم منذ مئات السنين منها: الهودج المخصص لزفة العروسة ـ المحمل المخصص لنقل كسوة الكعبة الشريفة من مصر إلى مكة المكرمة ـ طاسة الخضة ـ صندوق الدنيا ـ قوالب صناعة عرائس المولد ـ أعلام الاحتفالات الدينية ـ كرسى الولادة ـ كوشة الفرح.. إلخ.. هذا المتحف الذى لا يعلم بوجوده معظم أبناء الشعب المصرى جارٍ ابتلاعه ضمن مبانى مجلس الشعب ومجلس الشورى لوقوعه بجوار هذه المبانى وجارٍ حرمانه من التمويل الكافى لإدارته حتى تفشى فيه الإهمال وأصبحت حالته باعثة على الخجل.
حين يطالع المرء هذه المعلومات يكتشف أن شعار «حب مصر» حين يتم اختباره فى الواقع العملى وحسابات المصالح. فإنه يتحول عند البعض إلى هتاف أجوف يردده فى المناسبات العامة بعض اللاعبين فى سوق السياسة. ذلك أن ما ذكرته ـ وهو قليل من كثير ـ لا يعبر عن أى مظهر من مظاهر الحب، لأن الذين يكرهون مصر لن يفعلوا بها أكثر مما يفعله هؤلاء.