يقشعر بدن المرء حين يسمع الخبر، ولا يكاد يصدق عينيه حين يطالع بشاعة الصور. وفى صدمته وذهوله فإنه لا يستطيع أن يخفى شعوره بالازدراء والنفور من أولئك الذين وضعوا الطيار الأردنى فى قفص حديدى ثم أشعلوا النار فيه، لكى يوجهوا بدمه وجسده المتفحم رسالتهم إلى الملأ. وحين يسترد المرء وعيه فإنه لا يستطيع أن يوقف سيل الأسئلة التى يستدعيها المشهد.
بعضها يفتح عينيه على ما جرى السكوت عليه، والبعض الآخر يقلِّب ملفات الذاكرة فينبه إلى ما كان منسيا، ومنها ما يدق الأجراس داعيا إلى التدبر والاعتبار.
وجدت تشابها كبيرا بين واقعة إحراق الطيار الأردنى زياد الكساسبة، وبين إحراق الفتى الفلسطينى محمد أبوخضير. ولاحظت أن بشاعة الجريمة الثانية أفدح. فمحمد الذى لم يتجاوز عمره ستة عشر عاما لم يكن جزءا من أى نشاط عسكرى أو مدنى، ومع ذلك فقد قتل بصورة أكثر بشاعة لمجرد أنه فلسطينى.
والذين قتلوه لم يكتفوا بإشعال النار فيه كما حدث مع الطيار الأردنى. ولكنهم سكبوا البنزين فى جوفه ثم أشعلوا النار فيه لكى يعذب قبل قتله. الفرق الآخر المهم أن الذين قتلوا الطيار معاذ الكساسبة فئة شاردة يرفضها ويستجهن ممارساتها الضمير العربى والإسلامى.
فى حين أن الذين قتلوا محمد أبوخضير مستوطنون يحظون برعاية حكومة إسرائيل ويلقون تأييدا من الرأى العام الإسرائيلى. مع ذلك فجريمة قتله لم تحدث ذلك الدوى الذى ترددت أصداؤه عقب قتل الطيار، لسببين رئيسيين أولهما أن قتل محمد لم يتم تسجيله بالصور، والثانى أن الجريمة تمت تحت رعاية دولة لها نفوذها القوى فى العالم الغربى، رغم أن الذين أقاموها والذين لا يزالون يديرونها هم مجموعة من القتلة المحترفين.
للأسف فإن الجريمتين تتصاغران إذا قورنتا بالمقتلة الكبرى التى يتعرض لها الشعب السورى منذ أربع سنوات. وهى مقتلة توفرت لها كل فنون وبشاعات التعذيب ووحشية الافتراس، لكن كل ما خرج منها لم يقدمها بصورتها الحقيقية التى نجح النظام إلى حد كبير فى إخفاء معالمها. أما إذا وسعت الدائرة فسوف تكتشف أن تعذيب المواطنين وقتلهم صار خبرا عاديا فى أقطار عربية عدة.
وفى بعض تلك الأقطار التى لا أشك فى أنك تعرفها فقد أصبح القتل يلقى ترحيبا من جانب بعض شرائح المجتمع، والأدهى من ذلك أنه بات يلقى تبريرا من بعض عناصر النخبة سياسيين كانوا أم مثقفين.
فى تحليل المشهد من هذه الزاوية نخلص إلى نتيجتين، الأولى أن الجميع يقتلون ويعذبون، بما يسوغ لى أن أقول بأن الإنتاج واحد ولكن الإخراج يختلف من بلد إلى بلد. داعش أعلنت عن جريمتها وتباهت بها. والآخرون ارتكبوا جرائمهم بقفازات ناعمة وفى مواكب مهيبة رفعت لافتات ورايات تكفلت بتزوير الوقائع والتعتيم على الفعل. وهناك آخرون طمسوا معالم الجريمة وأطلوا علينا بوجوه بريئة وابتسامات عريضة.
وهناك فريق رابع لم يمارس القتل بحق مواطنيه، ولكنه استباح الآخرين وأشبع فيهم رغبته فى القتل (لاحظ تقرير التعذيب الأمريكى وممارسات الطائرات بدون طيار فى أفغانستان وباكستان واليمن والصومال)
النتيجة الثانية أن الإنسان أصبح أخطر المخلوقات فى الكون. لأنه الكائن الوحيد الذى يعذب ضحيته ويتفنن فى ذلك كلما ازداد تقدما ومعرفة. فليس هناك حيوان مهما بلغت شراسته يعذب ضحيته، لأنه يفترسها مباشرة. حتى إذا أفرغ فيها سُمه فإنه يفعلها ويمضى. أما الإنسان فإنه الكائن الوحيد الذى قد يتلذذ بتعذيب ضحيته ولا يكتفى بقتلها.
فى إطار التذكير والتدبير عندى نقطتان هما:
• إن الذين أحرقوا الطيار الأردنى ينسبون أنفسهم إلى الإسلام. وفى الأجواء الراهنة لن استغرب إذا انتهز البعض الفرصة وصوَّبوا سهامهم إلى العقيدة التى ينسبون أنفسهم إليها. لكننى أحب أن أذكّر هؤلاء وأمثالهم بأن محاكم التفتيش بفظائعها وبشاعاتها التى استمرت فى القرنين الخامس عشر والسادس عشر، كان يباشرها الكهنة وتباركها الكنيسة الكاثوليكية، ولم تنسب جرائمها إلى المسيحية.
وحين أصدر اثنان من حاخامات إسرائيل (هما يتسحاق شابيرا ويوسف اليتسور) كتاب «عقيدة الملك» (عام 2009) وبررا فيه قتل المدنيين العرب استنادا إلى تأويل نصوص فى التوراة فلم توجه المطاعن إلى العقيدة ذاتها. وهو ما يسوغ لى أن أستعيد ما سبق أن قلته من أن النصوص الدينية تظل سلاحا بحدين، بحيث يمكن استخدامها لصالح أنبل الأهداف فى ظروف معينة كما يمكن توظيفها لاقتراف أعظم الشرور فى ظروف أخرى. والتقييم الموضوعى للخيار الأول أو الثانى يفرض ضرورة التحقق من طبيعة الظروف التى استنبتت السلوك النبيل أو الشرير. وعليه فالمحاكمة الحقيقية والمنصفة ينبغى أن توجه صوب البنية الاجتماعية والسياسية، وليس العقيدة الدينية.
محور النقطة الثانية هو السؤال: من أين جاء هؤلاء «الدواعش»؟ ـ ردى المباشر على السؤال وثيق الصلة بالنقطة السابقة. ذلك أن هذه النماذج بمثابة إفراز طبيعى لوحشية النظام البعثى فى العراق وسوريا الذى غذته سجون الاحتلال الأمريكى فى أبوغريب وغيره. ذلك أن القتلة وهم يؤدون دورهم ينسون أنهم يلقنون ضحاياهم دروسا خصوصية تعلمهم أساليب البطش وفنونه، بقدر ما إن ممارسات الأنظمة الديمقراطية تعلم الناس فضائل التسامح واحترام كرامة الإنسان وقواعد القانون.
إن شئت فقل إن النظام السياسى يشكل بيئة حاضنة تسهم فى تربية المجتمع ونسج قيمه سواء فى الاتجاهات السلبية أو الإيجابية. وما تفعله داعش نموذج لسوء التربية التى ابتلى بها المشرق فى ظل النظام البغيض والوحشى الذى أقامه كل من صدام حسين ونظيره حافظ الأسد. وهو درس لا تعرف أن أحدا من الطواغيت وعاه أو تعلم منه.