الجسد أول القهر.. قلنا هذا من قبل.. ونراه الآن. تتحول الأدوات التى استخدمتها كل الأنظمة المستبدة إلى أفكار عميقة تجتاح المجتمع.
الأنظمة تسيطر على الجسد (الضرب/ القتل/ الاغتصاب/ الاعتقال) ومنه تحكم قبضتها على العقول والأفكار.
هكذا لن يمر يوم دون أخبار قتل واغتصاب وإهانات جنسية/ يصاحبها استعراضات أبطال الفضيلة الذين يؤكدون أنهم «فتوات» المجتمع هم من يسمون الأشياء بأسمائها.. من يضعون المقاييس فى العلن.. ثم ينتهكونها فى الخفاء.. لأنهم فوق القانون ولديهم جمهور مرعوب منهم، ومن الوحوش التى تتربى على القهر والكبت والإذلال.. ومع الشعور بالعجز يحدث الإنكار.. ويليه فورا التسليم بأن هذه الأدوات قدر أى يتحول قمع الجسد إلى فكرة وقناعة وإيمان.
إنهم أخلاقيون جدا.. لكنهم يرتكبون نفس الجرائم.. لأن فى عمق هذه الممارسات شعورًا بأن الحكم هو «ممارسة الذكورة العدوانية/ المجرمة وهم يريدون احتكار تلك الذكورة اللعينة».
وأريد دائما أن أسأل محترفى هذه الجرائم: كيف تنام مع زوجتك بعد اغتصابك للمساجين؟
كيف ترى عائلتك بعد مشاركتك فى صنع فضيحة جنسية؟ وهل تتصور أن أحدا منهم بعيد عن هذا المصير؟ هل تتخيل أنك من شريحة أعلى من أن يطالها هذا الجنون.
انظر لتعرف كيف يحول هذا القهر كل المشاركين فيه (الحكام بأدواتهم المجرمة والجمهور الذى يلوك الفضيحة ويسكت عن انتهاك الآخرين..) إلى «كائنات كارهة للحياة» تمارس انحطاطها على أنه قيمٌ عليا..؟
عندما نشرت فصول من كتاب «الروض العاطر» (ضمن ملاحق عن الكتب الممنوعة فى صحيفة «الفجر» سنة ٢٠٠٦).. فوجئت برد الفعل.. نشرته يومها ضمن 3 كتب محرمة، لكنه وحده الذى أثار الحوارات واللعنات والغمزات.
على تليفون الجريدة.. وفى برامج الفضائيات.. وضمن رسائل الموبايل القصيرة.. وعلى ناصية باعة الصحف... وفى المقاهى.
الروض العاطر لا غيره.
رغم أننا نشرنا النص الكامل لكتاب على عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم» أقوى كتاب فى رفض الدولة الدينية.
ونشرنا أيضا فصل معجزة العذراء من كتاب صادق جلال العظم «نقد الفكر الدينى»، لكن «الروض العاطر» كان الصدمة.
لم يتخيل قراء أول سنوات الألفية الثالثة أن هناك كتاب تربية جنسية من تأليف شيخ متخصص فى الفقه.. وموجه أساسا إلى الوزير «أى أعلى سلطة فى تونس».
القراء تعودوا على أن الجنس مشروع خطيئة.. لا مكان له فى النور والعلن.. بل فى كهوف سرية.. وفى علب بيع المتع الرخيصة.
الجنس ليس علاقة حرية أو.. رحلة فى سبيل لذة «ربما أقوى لذة».. يتحرر فيها الجسد وتطير الروح خفيفة.
الصدمة هذه المرة لم تتعلق بفكرة سياسية كبيرة مثل الخلافة.. يقدمها المهووسون بالتنظيمات الدينية على أنها روشتة الخروج من أزمات الدولة الحديثة.
ولا لعبة استخدام جنرالات الملكية العسكرية لفكرة انتظار الناس الغلابة للمعجزة من السماء، وتحويلها إلى غطاء لهزيمة ثقيلة.
كتاب التربية الجنسية كان هو الصدمة.
ببساطة لأن الجنس هو الوتر الحساس الذى نخفيه تحت أغطية ثقيلة من عادات النفاق الأخلاقى.
السيطرة على الجسد هى سيطرة على المجال الشخصى.. هى إخضاع الفرد وإجباره على الوقوف فى طابور الثقافة العمومية بلا تميز ولا ملامح شخصية.
الفاشية تتكلم أولا عن تربية الفرد.. وانضباط أخلاقه.. لا تتكلم عن حريته.. ولا عن عشق الحياة.
والديكتاتورية تكره القراءة لأنها تعلم الفرد أن يكون ثقافته الشخصية بعيدا عن بروجرام ثقافتها الرشيدة.. هذه الأنظمة تطارد العقل وتمنع التفكير.. وتبدأ عادة بالجنس.
تجعل الكلام عنه فى خانة الابتذال.. لا جنس بعيدا عن الخطيئة.. لا علاقات حرة.. ولا معرفة عن المتعة خارج الكتالوج.. من هنا يبدأ القهر.. من هنا تبدأ سلطة رجل الدين.. والديكتاتور.
وإذا تأملنا كل محاولات السلطات الفاشلة سياسيا، سنجدها تبدأ من الكلام عن الفضيلة والأخلاق، لأنها أنظمة عارية من كل قيم.. تقهر الناس وتقمعهم وتمتص قوتهم لكى تستمر فى السلطة، وتريد تغطية مجتمع (تحت شعارات أخلاقية.. وخوفا من مؤامرة انحلال قادمة.. ولكى تشعر الناس أنفسهم بالذنب والعار..).
ولن نتغير إلا إذا نسفنا نفق الانحطاط الطويل.. وما تبقى من قدرة هذه الشيزوفرينيا على أن تكون هى عنوان الأخلاق.
لن نتغير إلا إذا ذهبت أخلاق النفاق إلى مدفنها دون أسف.. وبكتابة على المدفن تقول: الأخلاق الوحيدة هى احترام حقوق وحريات الآخرين.. كن متزمتا لكن ليس من حقك أن تفرض التزمت.. أنت حر فى أن تكون محافظا لكنك لست حرا فى تخيل أنك بوليس على حريتى.