تنتعش الذاكرة أحيانا لندرك أن:
الحكم بالحبس المشدد لمبارك ونجليه ٣ سنوات فى قضية القصور الرئاسية يعنى أن كل محاولات حمايتهم فشلت، وأن ما فعله مقصدار القوانين لحماية الجالس على المقعد الكبير وعائلته لم يفلح عند هذه القضية الصغيرة جدا، بل إن المحاولات نجحت مع المهندس محلب نجم المقاولين العرب وقت زهوة العائلة بسيدتها الأولى والأجيال الجديدة التى ولدت فى ظل مناخ نفسى يقول لكل طفل فيها: «نحن عائلة ملكية لكننا لن نقول لأننا نعيش فى جمهورية..».
صدَّقت العائلة/ وأجيالها/ بل وصدقت مؤسسات الدولة المشاعر الملكية لعائلة رئيس الجمهورية… (مشاعر ترتبط بالعمر الطويل لمبارك.. لأن كل رئيس مر بمصر تصور نفسه ملكا لا يترك مقعده إلا بالموت، بل ويكون له وريث جاهز.. الذى تغير أيام مبارك أنه عاش أطول من سابقيه، كما نضج الأنجال بعدما أطبقت أجهزة القمع الأمنية بخناق الحركة السياسية فى ظل تكريس كامل لدولة بوليسية يتحالف فيها المصرح لهم بجمع الأموال مع شبكات ضباط أمن الدولة الذين مثلوا جهاز الحكم الحقيقى فى السنوات العشر الأخيرة من حكم مبارك).
وهذا غالبا ما دفع اللواء فريد التهامى عندما كان رئيسًا للرقابة الإدارية أيام المرسى إلى منع استكمال التحقيق فى القضية رغم أنه من جيل استفاد من إزاحة مبارك، وسقطت السلطة فى أيديهم.
كما أنه هو «المعلم الروحى» للرئيس السيسى الذى كان فى المجموعة الضيقة التى أدارت من الخلف شؤون الحكم فى أثناء تصدر المشير طنطاوى والفريق عنان.
غالبا، التهامى حاول منع محاكمة مبارك بفعل هذه القوة النفسية التى جعلت كل منتمٍ إلى هذه العقلية من إدارة الدولة يتهيب قبل أن يحاكم رئيسًا أودى بنا إلى ما قبل الكارثة بقليل.
وربما يكون الحكم على مبارك فى قضية فساد يمثل رمزيا رسالة بالقطيعة مع المجال النفسى لمبارك، مقارنة بالدفاع المستميت عنه فى قضايا قتل المتظاهرين أو الإفساد السياسى أو إدانته بالمعنى الذى يفصل الاستبداد عن الفساد ليحاكم مبارك الفاسد (لأن المجموعة الجديدة تريد تقديم التأكيد على صورة النقاء) ويترك مبارك المستبد (.. لأنه لا بد من ترسيخ فكرة أن الاستبداد ضرورة… أو قدر).
وهكذا لم ينل مبارك إلا الإهانة وبقى لهم الاتهام بالسرقة واللصوصية، فى الوقت الذى استماتت فيه المؤسسات كلها لكى لا تحاكم ديكتاتوريته، إهانة لا نعلم هل هى مقصودة أم لا، لكنها التصقت به كما تلتصق اللعنة بالبائسين.
مبارك هو التمساح العجوز الذى كان كنزًا لكل من حوله وبالمقدار الذى يسمح به… ويوافق عليه.. فهو الذى ذهب للعلاج فى آخر أيامه إلى ألمانيا بعد ٣٠ سنة لم يستطع فيها بناء مستشفى واحد يمكنه العلاج فيه، وهو الذى ذهب إلى جحيمه الواقعى بعد أن أصبح ٤٠٪ من المصريين تحت خط الفقر، ومصر دولة فقيرة يحكمها الأغنياء.
أين بقية ثروة مبارك وقد أثبت الحكم الأخير أنه كان يلهو بأموال الدولة؟
وفى رحلة بحث عن كنز التمساح العجوز اكتشفت أنه.. لم تكن لأموال مبارك رائحة قبل أن يغادر قصره إلى حيث ينام الآن على سرير طبى… تحت الإقامة الجبرية.
الرائحة تصاعدت بعدما طارت السلطة/ أو لم تعبر الرائحة جبال الألب إلا بعد تبخر السلطة من قبضة التمساح العجوز.
الآن مبارك فى مستشفى عسكرى على نيل المعادى بينما ثروته مجمدة فى بنوك سويسرا… أى على بُعد خطوات من الفندق الذى أقيم به فى رحلة تحاول الإجابة عن سؤال: لماذا لم تعد أموال مبارك؟
القوانين تمنع مراقبة الحاكم/ فهو الأب الذى تخجل المجتمعات من محاسبته/ وليس الموظف الذى يقوم بمهمة لها حدودها/ ولهذا فالأب الجديد يريد مسح أبوة سابقة/ والبداية من المحاكمات أو التحقيقات التى لا تسندها بنية قانونية قادرة على الكشف/ فالقانون يحمى السلطة ولا يساوى بينها وبين الشعب/ ومبارك وحده الذى سقط ورأى فى حياة عينه تحوله من ديكتاتور/ إله إلى مومياء بائسة.
وهكذا تحول مبارك إلى «حالة..» ليس فى القاهرة حيث سقط عرش خلوده/ ولكن فى سويسرا فهو أحدث سلالة بدأت بديكتاتور الفلبين ماركوس ولم تنتهِ بالقذافى ومن قبله بقليل موبوتو فى الكونغو… هو حالة وحده يلتقى معهم فى الشعور بألوهية أبوية توحى لك بأن البلد كلها ملكك بشعبها وأرضها وخزائن ثرواتها/ إنت حامل المفاتيح وخاتم التصاريح بالثروات/ ومن يقدر على محاكمتك؟
مبارك كان من هذه السلالة، لكنه أيضا كان محكوما بعقلية وقلب وروح موظف مغرم وقادر على «تستيف» الأوراق.
وبالنسبة إلى دولة ترى أن التزامها بالقانون يعنى «تستيف الأوراق» فإن الحكم فى القصور الرئاسية يعتبر رغم إرادة مَن يتحكم بخيوط اللعبة، علامة فى طريق جديد.. للرقابة على «الرئيس..».
ولهذا أهدى غدا لكل عشاق زمن اللصوصية الجميل، الذين يفتقدون «يوما من أيام مبارك»، والذين ينفخون رائحتهم العفنة فى وجوه الناس، احتقانا وضغينة على فقدانهم شبكات النفخة الاجتماعية والمالية، إلى هؤلاء أهدى حكاية من حكايات القاهرة اعتمدت فيها عن تحقيق ممتاز لحسام بهجت من ملفات قضية القصور الرئاسية وبطلها المقدم معتصم فتحى.