الحكاية نوعها مثير.. سايكو أكشن/ من النوع الذى تشاهده الشعوب المتفرجة فى دراما ترويضها بحلقات صابون لا ينتهى..
الحكاية عن جمال مبارك.
وكان يُنتَظر منها قمة الإثارة/ حكاية الموسم/ شرير الشاشة الشاب خارج الزنزانة ويمارس السياحة الحرة.
اختاروا له الهرم لأنه بعيد، ومعزول ويمكن حمايته من بعيد.
اختاروا له مسرح الحكاية كما اختاروا أن يلعبوا به ليتحكموا فى الأب.
شهوات الابن مصنوعة ككل حياته.
لم يسأل البطل الذى لن تنتهى إثارته: لماذا أكلتْ التعاسة حياته من حيث كان يريد أن يصنع لذة لا تنتهى بالسلطة والثروة؟
وحتى الآن لم يفهم جمال ابن الرئيس الذى أكل البلد ببلادته وركوده وطغيانه الذى سلَّم مصر لاحتلال المافيا الكئيبة البليدة..
لم يفهم جمال مبارك لماذا غضب الناس عليه، رغم أنه كان واقعيًّا جدا، وكوَّن ثروة ضخمة بنفوذ أبيه، وسخنت شهواته السلطوية لأن الأب أفرغ البلد من كل شىء، فأصبح الملعب فارغا لمثل هذه الشهوات..
لم يفهم ولن يفهم، فهو أسير لعبة جهنمية امتصت حياته، بائس كما لم يكن البؤس بهذا الحضور من قبل، والأصعب أن كل هذا البؤس لا يثير شفقة أو تعاطفا من أحد.
وها هى الحكاية المثيرة: جمال مبارك يتجول فى الهرم مع عائلته الصغيرة.
وأرسل واحدًا ما من الحاشية التى تريد أن تنقذ أسيادها، الصور لجريدة، تقبع فى الممرات والكواليس تنتظر الصفقات.
وكان مقصودا كما هى العادة فى مسلسلات الأشرار الذين يخططون فى غرفهم الفخمة، بينما تتصاعد أدخنة السيجار الفاخر (لا يستمتعون به غالبا، يحاولون فقط أن يمنحهم صورة الفخامة المصنوعة، مجرد إكسسوار لا يتلذذون بمذاقه) وتعلو الوجوه ابتسامات صغيرة مكيرة «سنقهرهم».
يقصدون بالطبع الذين ثاروا على المافيا/ وأرادوا التغيير/ والإفلات من مصير القطعان البائسة تحت حكم مافيا تضخمت ففشلت فأكلت نفسها.
المافيا هذه تلعب الآن فى الكواليس دور ناشرى اليأس (لا تحلموا بالتغيير فنحن -مثل مستر إكس- لا نموت).
هذا ما تقوله صورة الجولة السياحية لجمال ابن العائلة التعسة، والتى رغم كل شىء لم تحرّك اليأس حسب المتوقع (اقتصر رد الفعل على آهات ألم عنيف/ غضب/ سخرية سوداء، من الطيبين الذين تصوروا أن الثورة تعنى اختفاء أو ذوبان المافيا فى خلطة الديتول مع ماء غسيل القصر لاستقبال الساكن الجديد).
لهؤلاء الطيبين أرسلت أجهزة ما عبر الصف العاشر من صحفها ومواقعها الإلكترونية أخبارا من نوع: «أجهزة سيادية وجَّهت رسالة عنيفة إلى مبارك وعائلته (عليكم الاختفاء النهائى)».
جمال التعس بتاريخه الثقيل، بدا مثيرا للاهتمام كبقايا مافيا تتسول البقاء، بما تمتلكه من أطلال الشبكات القديمة، بينما تستخدمها أجهزة تحاول إحياء ألعابها القديمة، فى الإيحاء بأن هناك خطرًا ما من هذه العائلة التعسة.
كما كان كل نظام سلطوى يبنى سلطويته الجديدة على الخوف من تلك «السلطوية التى سقطت» وقد عشنا هذه الفترات عندما سقط الملك فاروق آخر العائلة العَلَوية، وعندما غاب عبد الناصر وأراد السادات بناء سلطويته على مدافن الزعيم الخالد.
وربما تكون هناك آمال ما تمر بخاطر كل العائلات/ أو المافيات الحاكمة، هذا طبيعى. فالحكم وبخاصة السلطوى إدمان ومرض، خصوصا عندما يعاد إنتاج النظام القديم بوجوه قديمة (لماذا سقطت أحلامنا فى الخلود ما دامت علاقات الحكم ما زالت مستمرة؟).
هذه الاستمرارية تحرّك الخيط الرفيع من الأمل، لكنها ليست قادرة على الخروج من الصورة، أو اللعب إلا فى الحدائق الخلفية، أو تسلية المشتاقين إلى الركود الجميل للمافيا الراحلة.
بالطبع ربما تتحول التسلية إلى فيلم رعب، ويكتشف خبراء هندسة الأنظمة، أن المجموعة الحاكمة تفرض شرعيتها. أو تحقق نقلة جديدة فى وجودها المعنوى لا بد أن تأكل المافيا القديمة، خصوصا أن هذه المجموعات لديها حساسية من التشكيلات البعيدة عن أسرابها.
وستتحمل هذه المجموعة تسالى أطلال المافيا القديمة، استجابة لضغوط خبراء الترويض فى الخليج (الذين يرسلون عبر أجهزة دعايتهم رسائل مكثفة باليأس من التغيير)، الذين يستخدمون تمويلاتهم لأجهزة الإعلام لإثبات صورة العائلة المباركية كمظاليم مؤامرة كبرى..
هذه المؤامرة هى نفسها الثورة، أو حلم التغيير/ أو الخروج من نفق المافيا/ أو إنقاذ الدولة المحتضَرة بروح جديدة.
البروباجندا المدعومة من الخليج، وفى تنسيق كامل مكتمل مع أطلال المافيا المباركية، يدفعون أموالا طائلة لفرض رواية أن «الثورة» مؤامرة، وأنها على الأقل «خطأ شعب.. لا يعرف مصلحته».
فالحكام أقدارنا وليسوا أشخاصًا عاديين/ يتحملون مسؤولية ويديرون مهام ويرحلون.
والمفارقة أننا بدأنا بحكاية جمال وجولته السياحية وتجاوزناه هو سريعا لنصل إلى الحكاية الكبرى.. فهو رغم كل الضجة التى أثارها منذ لحظة ظهوره فى ٢٠٠٢، مجرد شخص تعس تلاعبت به الغرائز والصراعات والشهوات المميتة.