وائل عبد الفتاح
لا بد من اعتراف أوَّلى: الأزهر شريك الحكم.
شريك غير كامل الأهلية لمؤسسة السلاح، لكن من دونه تصبح شرعية الدولة مجروحة.
جرح الدولة فى اعتمادها على احتياج السلطة إلى شرعية دينية أو صك بهذه الشرعية من مؤسسة لا دور لها فى بناء الدولة المصرية إلا «البحث العلمى فى الأمور الدينية»، لكنها تريد أن تلعب دور الكهنوت.
الدولة وهى تعتمد على جنرالات قادمين من مؤسسة السلاح ومنذ الضباط الأحرار وعبد الناصر، لم يجدوا وقتا طويلا إلا ضبط مؤسسة الكهنوت الأزهرى على مقاسهم، أو تحت طوعهم، وهو ما ترك مساحات مزايدة وابتزاز، تجسدت فى شكل جماعات الإخوان المسلمين وأولادها المارقين عليها، المتمردين على صفقاتها المتتالية مع السلطات، من الملك إلى السيسى، مرورا بمراحل تترك الدولة فيها لشريكها الأزهرى مجالا كلما شعرت بالضعف أو مع كل أنين للجرح النازف.
الأزهر علا صوته الآن، وقرر البحث عن دعم وجده فى وجوه التنوير التليفزيونية ومحاولتها صنع رواية موازية للرواية الدينية الرسمية.. هذا التقليب فى العادة لا يقضم من الأزهر، لكنه يضع للحكاية الدينية توابلها الحارقة، التى تدفع المؤمنين إلى الدفاع عن اطمئنانهم باستدعاء الكهنوت الأزهرى اللطيف.
من حق الأزهر الدفاع عن كهنوته وروايته، لكن ليس من حقه منع شخص آخر يؤمن برواية أخرى أو وجد فى نفس الكهف المعطّن حكايات أخرى تصنع له نجوميته، ليس من حقك مصادرة اللعب فى الكتب الصفراء، وتحويل حكايات وقعت منذ ١٥٠٠ سنة إلى مركز مهيمن على الحياة، وهذا المركز هو مبرر السلطة التى يتنافس عليها الأزهر مع الإخوان وأولادهم.
وهنا يجد السلفيون مساحتهم فى اللعب، حيث يكرسون لكون الأزهر مؤسسة كهنوتية، ويتسربون إليها ليحتلوها من الداخل، ويصبحوا هم -ببركة جرح الدولة- سلطة على الناس.
هكذا عاد السلفيون إلى منابر الخطابة بضغط سعودى (لضمان السيطرة على جمهورهم المصرى فى المساجد وفى حربهم التى لا يعرف أحد لماذا نتورط فيها)، وفى نفس الوقت سيكون السلفى هو رد الدولة على ابتزاز الإخوان باتهام السيسى وحكومته بالخروج عن الدين.
هذه دائرة جهنمية نعيشها فى دولة جامعة للتناقضات والأزمان، المقيمة فى زمن وحدها، المستقرة مع شيزوفرينيا عمومية لا تتيح طويلا استخدام العقل أو التأمل أو التفكير، بعيدا عن هستيريا الأجنّة التى تموت فى الأرحام بسبب داء السلطوية البنيوى. هجمة المطوعين الرسميين لم تأت مع السيسى، لكنها فرقة تؤدى نمرتها فى استعراض يثبت تدين الدولة. هى مضاعفات جرح سرّى من جروح الدولة المصرية. شعور بالذنب مقيم منذ أن هَوَت الخلافة العثمانية ودخلت مصر مرحلة الدولة الحديثة، دون شرعية اجتماعية، ولكن بموديل ارتبط مع الاستعمار.. وهذه لعنة، جعلتنا نستمتع بمنتجات الحداثة ونلعنها، نفخر بأننا أصحاب أول سكك حديدية، لكنه فخر مرتبط بالتدمير والإنكار والشعور بالدونيّة تجاه ما نعيش فيه.
الحكام يستمدون وجودهم من العلاقة مع الغرب، لكنهم وبدرجات تلعب الخلافة بأحلامهم. أرادوها عندما اعتلوا الكراسى أن تكون عروشا ذات نزعة إمبراطورية وأبّهة تاريخية.. أرادوها دولا تشبه الدول التى يُروى عنها فى سير البروباجندا التاريخية عن خلفاء وملوك المسلمين. كل منهم استوحى خلطة انتقى فيها حكاية من حكايات (أبو بكر الصديق أو عمر بن الخطاب، أو علىّ بن أبى طالب، وحتى عمر بن عبد العزيز الملقَّب بالخليفة الخامس)، كلهم تنافسوا على السادس. ودبَّجوا حكايات تشبه من قريب وبعيد حكايات الخلفاء.