وائل عبد الفتاح
.. إذا لم تتأمل فعلى الأقل ستندهش قليلا بعيدا عن النفايات المتلفزة أو المكتوبة أو الخارجة من مكاتب مسؤولين ندفع من أموالنا مرتباتهم، ويتعاملون معنا معاملة الأسياد للعبيد. أتحدث عن كمّ الدهشة فى قصة قتل طالب «هندسة عين شمس» إسلام عطيتو.
1- «الداخلية» بدأت القصة بلغة اليقين وامتلاك الرواية الوحيدة/ الحاسمة الباترة فى اختفاء طالب جامعى قالت عنه بالنص فى بيانات رسمية «أمكن تحديد مكان اختباء أحد عناصر لجنة العمليات النوعية المتورطة فى الحادثة وهو (الإخوانى/ إسلام صلاح الدين أبو الحمد عطيتو) فى أحد الدروب الصحراوية بدائرة قسم شرطة ثانى التجمع الخامس.. وحال مداهمة القوات لمكان اختبائه بادر بإطلاق الأعيرة النارية تجاههم، فقامت القوات بمبادلته إطلاق الأعيرة النارية مما أدى إلى مصرعه وضبط السلاح الآلى الذى كان يستخدمه..» (بالنص فى 20 مايو).. ثم انتقلت إلى لغة الشك والبحث عن روايات أخرى وقالت مصادرها للصحف: «سنفحص واقعة مقتل (طالب الهندسة).. وسنحاسب المتورط (إنْ وجد)». الفارق بين اليقين والشك أيامٌ، بل ساعات كان المؤثر فيها إصرار اتحاد طلاب كلية الهندسة على إجلاء الحقيقة باستخدام كل الطرق السياسية السلمية ومنها «الاستقالة..».
2- هناك إذن «كيان» فى «جامعة» أصر على أداء مهمته (أو الانسحاب) كما يقول بناء المؤسسات الجامعية الحرة، وليس كما يملى عقل السيطرة/ والقمع/ والسمع والطاعة، مجرد دفاع الكيان (اتحاد طلاب منتخب) عن مهمته (الدفاع عن حقوق الطلاب وحياتهم، وليس مجرد تنظيم رحلات وحفلات تمجيد الطغاة..) أربك هذا العقل، وفكك روايته.
3- فى المقابل تنازل الجميع عن مهماته ليكون مجرد بوق دعاية لهذه الرواية المشكوك فيها، بما فى ذلك رئيس جامعة عين شمس ونائبه، اللذان ردَّدا الرواية بيقينها وتأكيدها كما فى تصريحات الدكتور عيسى رئيس الجامعة، من أن الطالب «أحد أعضاء جماعة أنصار بيت المقدس، وأنه هارب من بيته منذ فترة» (موقع «مصراوى» 21 مايو) هكذا دون أن يتحقق/ أو يفكر فى رواية الداخلية/ كأنه وُجد فى مكانه ليصدق، أو كأنه فى مكانه ليصدّق أىَّ رواية من الجهات التى تشرف على تعيينه (هذه إحدى روائع وعجائب التعيين الأمنى لرؤساء الجامعات فهم أول من يسمع ويطيع، أول من ينفّذ ويلغى العقل أو التفكير، لصالح التعليمات والأوامر..).
4- الصحف والمواقع التى نشرت الأخبار استخدمت تعبيرا غريبا وهو «التصفية» لتصف ما حدث مع الطالب. وحسب تاريخ هذا الوصف فإنه يُستخدم فى «حرب عصابات..» أو «عمليات خارج القانون»، لا فى مهمة من جهاز تابع للدولة مهمته تنفيذ القانون. هذه الكلمة تكشف عن تفشّى نفسية وروح انتقامية، تثير القلق على الأمن لأنها تعبر عن انفلات يجعل صحيفة مثلا تستخدم تعبير «الثأر..» لنفس الحادث الذى يعتبر فى العرف الإنسانى جريمة مروّعة. وفى التاريخ السياسى علامة على توحش الأجهزة الأمنية (استدعت نماذج منها الأرجنتين أيام حكم الجنرالات حين كان يُخطف الناس من أماكنهم ويُقتلون ويُلقون فى الصحراء، وكانت تُسمَّى رحلات الموت).
5- لا أعتقد أننا وصلنا إلى المرحلة الأرجنتينية، لكننا ننزلق إليها بقوة، مع هذا المناخ الهستيرى، ولولا وقوف الطلاب دفاعًا عن زميلهم، لكانت رواية «الداخلية» مرت كما تمر روايات أخرى تعتمد على رعب الناس من الإرهاب وعدم تدقيقهم فى الحبكة الركيكة، لكنها من ناحية أخرى يمكن أن تكون محاولة تجريبية لاعتماد أسلوب «التصفية» و«الثأر» وتمرير «رحلات الموت..» على اعتبار أنها «شىء عادى» فى إطار حرب مع الإرهاب، وبدلا من أن تديرها الدولة بالقانون فإنها تحتكم إلى الهوس بالقتل والانتقام.
ملحوظة: إذا انزلقنا إلى الحالة الأرجنتينية، فالقتل والتحول إلى ضحية لن يستثنى أحدا، ولهذا فقط استسلم قليلا للدهشة.