عندما فتحنا حياتنا على الغرباء
أخر الأخبار

عندما فتحنا حياتنا على الغرباء

المغرب اليوم -

عندما فتحنا حياتنا على الغرباء

وائل عبد الفتاح


لا يكفُّون عن التحديق.

حتى الذين عرفتهم صورا وحكايات يحدِّقون كأن طاقتهم لم تذهب إلى الموت معهم.

ترنح جسد «باسِم» من الدور العاشر. ساعتها فقط اكتملت حكايته وأصبحت تحديقته تخصّنى. اكتشفت أنه يتقاطع مع دوائر متعددة من الأصدقاء، وله فى الثلاثين جاذبيّة المترفِّع عن الحروب الصغيرة. لم ألتقِه شخصيا لكن اسمه عندى على قائمة الأصدقاء فى «فيسبوك» و«تويتر».. لقد تغيرت مفاهيم وأحوال وأشكال الصداقة. تظن أن خبرًا مثل «موت باسِم صبرى بعد سقوطه من شرفة منزله» سيمرّ عاديًّا، أو بلعبة الإنكار والألم والتلصص على حكاية القافز من أعلى.. لكنه فجأة أصبح يخصك. انضم إلى مجموعة المحدقين فيك الذين لا يغادرون مع أجسادهم.

لقد اتسعت دوائرنا لمزيد من الغرباء. اتسعت بما يعنى تشظّى المشاعر إلى درجة لا نهائية. صلات تتوالد عن بُعد، وأحزان تصبح جزءا منك وأنت غارق وحدك فى أحد ثقوب قطعة الجبن الكبيرة.. تصنع فيها مدينتك وتتسع خطوتك تقول إنك ابن مدينة بين 20 مليونا يتجولون فيها كأنهم فى حرب، وأنت تختار الممشى بين كل هذه الطرق الحربية لتقول عليه مدينتك.

لكنّ «باسِم» سقط بالقرب منك.. فى المهندسين ترنح جسده الثلاثينى لتحفر نظرته التى تبدو قديمة/ تبدو أيضا من زمن ما بين حروب الحضارات.

«باسِم» ابن فسحة زمنية بين الحرب عاش فيها وسط ألوان أراها صوره وأتمعن فى تأثيرها على ملامح وجهه ليبدو مغنّيًا يونانيًّا، لم يقفز مع آلهة الحرب كالضفادع ليملؤوا الأرض.. لكنهم يتبادلون أبياتًا أو ألحانًا أو يلوكون فكرة قديمة تصنع هواء بين العجلات الحربية.

قديمٌ «باسِم»، فكيف ترك جسده يترنح فى رقصة الهواء ليسقط فى قلب المهندسين/ أحد قلوب القاهرة الشاغرة بأهواء وشهوات ونزوات، لا تتوقف أو لا تخضع لتاريخ قديم مثل مصر الجديدة أو العباسية أو الزمالك.. إنها قلب مَن لا تاريخ له، هى المدينة التى سخر منها على صفحته فى «فيسبوك» قبل أيام قليلة، وعندما غاب سكان المدينة فى إجازة شم النسيم: «…القاهرة قد إيه حلوة وهى فاضية من غير ناسها…» كتبها ورسم وجهه المبتسم.

وقبلها كتب وداعًا لماركيز بعد أن نشر جملة منسوبة إليه:

«… ليس حقيقيا أن الناس تتوقف عن السعى وراء أحلامها لأنها شاخت فى السن، بل هى شاخت فى السن لأنها توقفت عن السعى وراء أحلامها…».

جسده طار قبل أن يصل إلى سؤال الشيخوخة/ احتفظ به شابًّا لا تغادر ابتسامته/ ونظرته الماكرة، وأناقته، الذاكرة. تلك الذاكرة التى ما زالت تعانى من الأماكن الشاغرة فى الروح من الأصدقاء. تلك الأماكن التى تترك فراغا لا يشغله أحد/ أصدقاء رحلوا سريعًا/ كأن معركتنا منذ أن خرجنا من البالونات الشخصية قد أفقدتنا قدرة ما من مقاومة الرحيل، كأننا دخلنا نفقًا كونيًّا نحارب فيه وحوشًا خرافية كل يوم تخطف واحدا.

«باسِم» خطف طائرا رغم أنه لم يكن من أصحاب الخصر النحيل.. لكنه فى ما يبدو فقد فى لحظة التوازن بين الجسارة والحياة… فقدها فى لحظة لا أعرف لماذا ربطتها بآخر ما كتبه على «فيسبوك»:

لأن بعض الأمور تستحق المخاطرة من أجلها. إنها الأمور التى ربما تعطيك فرصة أن «تحيا»، وليس لمجرد أن تظل على «قيد الحياة»، فقط حتى يصمت جسدك ثم يفنَى يومًا ما من تلقاء ذاته.

«فيسبوك» جعلنا أصدقاء/ تداخلت حياتنا إلى درجة لم أفهم فيها سر تتبعى لألوان الخلفية فى الصور أو لسعيه وراء الحلم الكامل بالحرية/ ليبرالى مخلص لليبراليته/ أو مثقف عابر للحظة الركاكة العمومية/ تداخلت الحياة وتابعت اللوع الذى أصاب أصدقاء كثيرين/ إلى درجة تركت فراغا إضافيًّا بغيابه.

نعم لقد عدنا من ٣ سنوات فيها فتحنا حياتنا على الغرباء الذين لا نعرفهم.. عدنا لنقيم حواجز من الكارتون المقوّى كلما مشينا فى الشارع/ أو توقفت السيارة فى إشارة مرور… نحن الآن فى علبة نحاول فيها الاحتفاظ ببعض من مشاعر لم تطحنها الحروب اليومية فى شوارع المدينة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عندما فتحنا حياتنا على الغرباء عندما فتحنا حياتنا على الغرباء



GMT 20:18 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

كبير الجلادين

GMT 20:14 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

التغيير في سورية... تغيير التوازن الإقليمي

GMT 20:08 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

ترمب وإحياء مبدأ مونرو ثانية

GMT 20:06 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

سوريا... والهستيريا

GMT 20:04 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

لا يطمئن السوريّين إلّا... وطنيّتهم السوريّة

GMT 20:01 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

هيثم المالح وإليسا... بلا حدود!

GMT 19:59 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

في انتظار ترمب!

GMT 19:54 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

محاكمة ساركوزي!

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 21:52 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

فالنسيا يقيل مدربه باراخا بعد التراجع للمركز قبل الأخير

GMT 11:01 2019 الأحد ,21 إبريل / نيسان

اكتنز ثواب وفضل ليلة النصف من شهر شعبان

GMT 20:16 2019 الأربعاء ,17 إبريل / نيسان

الهدف الأول لليفربول عن طريق ساديو مانيه

GMT 12:05 2018 الخميس ,19 إبريل / نيسان

"ديور" تطلق مجموعة جديدة ومميزة من الساعات

GMT 00:12 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

إنتر يواصل ملاحقة الصدارة بثنائية في كومو

GMT 23:47 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

نيكولاس غونزاليس سعيد باللعب في غير مركزه مع يوفنتوس
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib