نحن فى زمن البيروقراطى الصغير. هو المنتصر الوحيد بعد أربع سنوات من الخروج الكبير من أجل التغيير بكل ما يحمله ذلك من معنى، وما تلاه من محاولات شيطنة التغيير.
لم ينتصر من التغيير سوى هذا البيروقراطى الصغير.. محدود الإمكانات والعقليات المنبهر دائمًا، الذى يمتص، رغم ضآلته، كل طاقة البلد (دولة ومجتمعًا).
والبيروقراطى الصغير نشيط هذه الأيام، يحاول استعادة مكانته المرتبكة بعد يناير ٢٠١١، ويوسعها بعد أن سقطت آلهة البيروقراطية وكهنتها الكبار مع مبارك، أو على الأقل دخلوا كهوفهم، بعد أن اكتشفوا أن اللحظة أكبر منهم.
البيروقراطى الصغير، ولأنه يعيش فى مفاصل الدولة، فإنه ينمو ويترعرع بين شقوقها، معليًا من جانب التنفيذ على التفكير والرؤية.
إنهم يبحثون عن إنجاز ولو كان كارثة أو بناء على أطلال.
ولا أتذكر المناسبة التى قال فيها المهندس محلب كلامًا مثل «كل شوية يطلع حد ويقول عاوزين رؤية، عاوزين رؤية، طيب يا سيدى الرؤى متكدسة فى الأدراج، المهم التنفيذ».
لكنها كلمات تعبِّر أصدق تعبير عن العقلية الحاكمة، ليست عقلية المقاولين بالضبط، لكنهم مقاولو زمن مبارك، حيث الزمن زمنهم، يبنون على أطلال دولة ارتبكت بين مرحلة صناعة «أوروبا فى الشرق»، بما يعنى ذلك من بناء المدن بهذا الولع بأوروبا ومعمارها، ومرحلة قيادة العالم الثالث، بنزعاته الشمولية، ومعماره السوفييتى تقريبًا.
ولا بد فى بلد يقوده البيروقراطى الصغير أن تكون دبى هى مدينة الأحلام، بالنسبة إليه ولجمهور ينبهر بالفخامة، والقدرة على بناء ناطحات سحاب فى الصحراء.
جمهور الانبهار قطاعات متراكمة، أولها البرجوازية.. قَلِقَةٌ على أخلاقها الجديدة، وبعد رحلة قصيرة من الإعجاب بالموديل الأوروبى المتحرر، المتمرد على التقاليد «الشرقية» والمسافر إلى محطة أخرى من ثقافة الفرد وحريته ومدنية تضع قانون أخلاقها بمعايير أكثر اتساعًا وميلًا للحرية الشخصية.
البرجوازية المصرية تعود إلى أخلاقها مصحوبة بشعور من العار، تبحث عن انبهار بمكان آخر، وهذه المرة تنبهر بالموديل الخليجى، تسمع فى شوارع القاهرة: «يا ريت تبقى الشوارع واحترام المرور زى السعودية».. أو «هو فيه أحلى من دبى وعمارات دبى ومولات دبى»، وفى ما يبدو أن الانبهار بموديل دبى إلى الحدود الاجتماعية بعد الهوس بالأبراج والشوبنج وأحيانًا بكوزموبوليتانية الحياة المفتوحة متعددة الثقافات (يعيش فى بعض الإمارات أكثر ٢٨٠ جنسية).
هل هذ الشكل الجديد من المدنية المتعددة أو (الكوزموبوليتانية) بعد الإسكندرية؟
وهل الإسكندرية كانت «كوزموبوليتانية»؟
ما تأثير المال على شكل المدينة؟ وهل ستصنع الثروات ما كانت تفعله الحضارة؟
هل يمكن أن تكون هناك مدن حاملة للحضارة ولا تنتجها؟ هل التعايش بين كل هذه الثقافات سينتج ثقافة مفتوحة؟
ما حدود الحرية وأشكالها وطريقة تنظيم الحياة فى مدن تتجه إلى عصر ناطحات السحاب دون العقول التى صنعت ناطحات السحاب؟
لماذا أصبحت دبى موديلا اجتماعيا ومعماريا؟
لماذا أصبحت المدينة الناعمة المقامة على سطح جاف لا يمتصها هى سقف الأمانى فى مدينة قديمة متعددة الطبقات الحضارية امتصت تربتها خصوبة تلاقح حضارات متباينة؟
لم يبق من الرغبة فى التواصل مع العالم إلا مجموعات تستوحى صورة دبى فى كل ما هو ضخم وفخم، تحاول أن تصنع مدينة من لا شىء تقريبًا.
مدينة مصنوعة يمكنها أن تبهر العين الفقيرة، أو التى تختصر الجمال فى الفخامة، والإبهار فى استعراضات تكشف عن ثروات وتشترى خبرات، لكنها تفتقر إلى شىء كبير.
دبى خدعة، ربما تكون جميلة، مثل ألعاب الملاهى، لكنها تمثل أزمة المجتمع فى الخليج الذى يستهلك أعلى إنجازات الحضارة، ولا تتطور معها العقليات والنظم الاجتماعية.
هكذا تبدو الحرية فى دبى قشرة، لا يجتهد أحد فى تحويلها إلى جدل وأفكار وثقافة فاعلة.. إنها جزيرة الاستهلاك الكبرى التى تبهر كل صغير وشاعر بالضآلة.