فى 9 أغسطس 1926 كتب على عبد الرازق لطه حسن رسالة عن المسافة بين القاهرة وباريس.. وتخيل ماذا لو وصل باريس الشيخ «بخيت» نجم محكمة التفتيش، الذى رفض هو والشيخ «قراعة» أن يردّا على تحيته (الشيخ على) «السلام عليكم».
الرسالة عثر عليها بعد أن اكتمل كتاب «أوراق طه حسين ومراسلاته» (أشرف عليه أحمد زكى شلق ومحمد صابر عرب).. وأهداها عرب (وزير الثقافة الأسبق) إلى أحمد عبد المعطى حجازى، الذى نشرها فى مقاله الأسبوعى 2008.
وفى الرسالة سأم ما بعد المعارك الكبرى/ وشعور بالغربة لم يستطع أن يخفيه الشيخ على، الذى اتهم بأنه لم يكتب ولم يؤلف، لكنه وضع اسمه على «مؤامرة» فى صورة كتاب.
الشيخ/ الدكتور على يحاول مشاركة طه حسين فى حربه ضد السأم.. فيحيا حياة العاشقين وما هو بعاشق/ هو الخالى المشغول/ الخارج من المعارك الطاحنة/ وحيدًا ولو تجمع فى ناديه مثل طه حسين أو آخرين طحنتهم ماكينة حرب أسنانها قديمة متآكلة.. وفى هذا سر عنفها.
الشيخ المقيم فى الحى السادس عشر بباريس/ والقادم من ممرات عبور مخنوقة بكراكيب الثقافات المستقرة، المتخثرة. قادم من أرستقراطية الصعيد (أبوه من باشاوات البهنسا التابعة للمنيا) بحمولة نصبته فى مقام «العلمانى» المتمرد على المؤسسة التقليدية.. وهو التائه فى الممرات.. المغترب فى جنة الاسترخاء بجوار الثقافة المستقرة والتقاليد والمعروف مسبقًا.
كيف كان يفكر الشيخ على وهو يعبر ممرات تكاد تمتصه فيها رائحة عفن معتق؟ هل كان يتصور نفسه طليعيا؟ أم لم يدرك أنه قاطع طريق فى أحلام ملك الذئاب التى كانت حاكمة؟
لنقرأ الرسالة.. ربما نستشف شيئًا يعين على الإجابة.
عزيزى طه:
أنست كثيرًا بجوابك وسرنى، وقد وددت لو أكون قريبًا منك، لأحاول أن أدفع عنك ذلك السأم الذى تلقى، فإنى لأكره لك أن تسأم، وإن كنت أسأم أحيانًا، ولعله قد آن الوقت الذى كنت تقدر فيه أن تحضر إلى باريس، وإذن سنتقابل إن شاء الله، ونتحدث فى تنظيم خطة لنا تكون ناجحة مثمرة، وربما اشترك معنا أخونا مصطفى، ولا تنسَ أن الدكتور هيكل فى أوروبا أيضًا.
أنا فى باريس منذ شهر ونصف، وقد سافرت إلى مرسيليا، فاستقبلت أخانا مصطفى، وقضيت معه أيامًا بين مارسيليا وليون، وذهبت معه إلى أكس لى بان، ثم تركته هناك على أمل أن نتقابل بعد ثلاثة أسابيع فى مكان لم نتفق عليه، والراجح أنه باريس، وكان هيكل مع مصطفى على السفينة، لكنه تركنا فى مارسيليا إلى باريس، وفى عزمه أن يقيم أيامًا فى لندن، ولا أدرى أين هو الآن، إذا كان فى عزمك الحضور إلى باريس، فاكتب لى من الآن، لعل ذلك يؤثر فى «بروجرامى» أنا ومصطفى. صحتى جيدة وحياتى هنا فى الجملة رضيّة، لولا أننى لم أتقدم فى دراسة الفرنساوى مطلقًا، ولا أكاد أشتغل فيه، ولا أشتغل فى شىء غيره، ولا أتفسح ولا ألعب، فأنا المشغول الخلىّ، مشغول حتى لا أستطيع أن أكتب جوابًا، خلىٌّ لا أعمل شيئًا، حتى لا أفكر، أشبه شىء بحياة العاشقين، ولكنى لست عاشقًا، وما أنا ممن ينزل العشق قلبه.
لست أفكر فى شىء، ولا أريد أن أفكر فى شىء، فدعنى يا صاح لهذه الحياة الخلية المشغولة، وما أبالى كيف تسميها أو تصفها، وما أبالى رضيتها لى، أم كنت لها من الكارهين. تريدنى أن أفكر وأمعن التفكير، وحرام عليك أن تذكرنى وأنا فى باريس، وأنت تعرف ما هى باريس، بمشايخ الأزهر، وهناتهم فتشوه بهم ما يعمر الذهن من صور الجمال، وتقطع بهم أنغام تلك الحياة شجية منسجمة، وتكدر بذكراهم لعنهم الله كأسًا هنية صافية. وأقسم إنك لو أخذت من زريبة الأزهريين الشيخ بخيت، والشيخ شاكر فقط، وربطتهما فى حبل واحد، ودليتهما من فوق تور إيفل، لأظلمت بهما باريس، من مشرقيها ومغربيها، وخيم النحس بشراشره عليها، فكيف تريد لذهنى وليس فيه من النور ولا من السعادة ما فى باريس، أن يحل عليه ذلك النحس المشؤوم.
إنك لن تكون صالحًا للتفكير ولا للشغل ولا للنهوض بما كتب الله عليك، إلا إذا ما تضلعت من سلسبيل اللذة، كما يتضلع الحاج من ماء زمزم، وإذا ما ذقت نشوتها صبوحًا وغبوقًا وقيامًا وقعودًا ونهلا بعد إعلال، وإذا ما امتزجت كما يقول السنوسى «بلحمك ودمك، فإنه يرى لها من الأسرار والعجائب، ما لا يدخل تحت حصر»، فإذا ما سكرت بعد ذلك سكرًا يذهلك عن نفسك، وعن «هذه الحملة السخيفة التى حملها الشيوخ على كتاب «الشعر الجاهلى»، وعن السياسة وأصحاب السياسة، وعن الزعماء الذين يتحكمون فينا ونحبهم ونقدرهم، إذا ما سكرت فنسيت كل شىء، وصرت مشغولا خليا أو خليا مشغولا، فاعلم أيدك الله، أنك قد وصلت إلى مقام الفناء، الذى يصل إليه الصديقون المجاهدون، وأنك قد صرت صالحًا للصحو بعد المحو، وللفكرة بعد السكرة، فاجمع رحالك بعد ذلك، وتعالَ إلى باريس نفكر والله المعين.
نصحتك علما بالهوى والذى أرى
مخالفتى فاختر لنفسك ما يحلو
تحيتى واحترامى وشوقى لك، ولمدام طه ولأنجالك الكرام، وللأخ توفيق أفندى.
(من حكايات القاهرة).