أنبش فى هذه الحكاية لعدة أسباب:
1- أن هناك مشروعا الآن لإعادة ترميم متحف محمود خليل وحرمه.
2- الترميم ومن سوابق مفجعة هو مجرد إعادة طلاء الواجهات أو ترخيم (من الرخام) الأبنية، وليس إعادة بناء تاريخ وروح تراكمت تحت خرابات البيروقراطية العطنة.
3- الأمر ليس متحفا تعرض فيه لوحات أو تواريخ بليدة، لكنها ذبذبات تعيش المدن عليها.
4- قوارض الدولة التى التهمت التاريخ فى سجلات حكومية أو بالجهل الفخور بعصاميته، تقتلنا فى العمر ألف مرة، وما زالت كل الأمور فى أيديها.
5- غارات داعش فى تدمير رسائل الناس التى عاشت قبلنا مفهومة ويمكن التصدى لها، أما غارات القوارض المتوحشة التى تلتهمنا ببطء فتحتاج إلى انتباه من نوع آخر.
والآن إلى حكاية اللص الوطنى الطيب..
لصوص طيبون، هذا ما تحلم به أحيانا عندما تغلق السموات أبوابها عن أمنيات صعبة، وتصبح الأرض ملعبا لمباراة فوق طاقة البشر المستسلمين للأقدار، استسلام الانتهازى المتواطئ الباحث عن فرصة. هنا يظهر اللص الطيب كفيلسوف أو حكيم غادر موقعه ليدخل فى اللعبة، ولا أعرف من أين أتت الحالة التى جعلت قطاعا لا بأس به ينتظر أن يكون اللص الذى سرق لوحة زهرة الخشاش وطنيا. يصحو ضميره ويعيد اللوحة إلى متحف محمد محمود خليل الذى تبرّع بالقصر إلى الدولة، والدولة حوّلته إلى جنة اللصوص، كما ظهر عندما سرقت أغلى لوحة فى العالم بطريقة بدائية أو بطريقة أوحت بأنها خطة رأس كبير من رؤوس نظام مبارك الذى سقط بعد عملية السرقة بفترة قصيرة جدا.
محمد محمود خليل، نفسه شخص غريب من نوعه، كان وزيرا للزراعة فى حكومة النحاس، ورئيسا لمجلس الشيوخ مرتين، لكن شهرته كانت فى الفن، والهوس بتلك الطاقة التى تجعل قطعة قماش أو خشب أو ورق، نابضة بالحياة.
الباشا المهووس بالفن تبرّع بالقصر والرئيس حوّله إلى مخزن، وليس غريبا هنا أن يسرق اللصوص نفس اللوحة مرتين، بينما الموظفون بدم بارد يقولون إن الكاميرات معطلة، لماذا فتحتم المتحف دون كاميرات؟ وكيف عبر اللص الحواجز بمشرطه؟
اللصوص كما بدوا فى قصة سرقة زهرة الخشخاش هم الظرفاء الوحيدون، اختاروا توقيتا غريبا لسرقة لوحة فان جوخ الشهيرة فى عز الظهر، حسب التعبير المصرى الذى يشير إلى أنها لم تكن سرقة معتادة، تتم فى سترة الليل وعتمته، ولكن فى وضح النور الساطع، وتحت أعين لم يرهقها بعد تسلل النوم.
هل اختار اللص الوقت؟ هل كان واعيا باللحظة التى يعود فيها المصريون إلى القرون الوسطى الحديثة، ويجبرون على الحياة فى رومانسية الشموع (كنا بدأنا وقتها نعرف ساعات انقطاع الكهرباء الطويلة)، ويمرون بتجربة العطش المفتوح (وكان الماء الذى يصل البيوت يدخل أزمته المستمرة للآن)، والسير فى شوارع معتمة (.. وهذا انهيار مستمر من وقتها)؟
اللص ظريف، ولديه حس مصرى ساخر، وإن لم يكن مصريا، يعرف جيدا أن المصرى فى رمضان كسول، مشغول برغبات حائرة، ومحاصر بمسؤوليات تتضخم بشكل خرافى، ولا ملجأ من كل هذا إلا الهروب إلى مزيد من الإفراط فى العبادة، اختار اللص وقت صلاة الظهر، ليقيم مسرح جريمته، احتفالا بالخروج الثانى للوحة.
"زهرة الخشخاش" اختفت فى منتصف السبعينيات، وعادت بشكل غامض، والبعض ما زال متأكدا أن النسخة العائدة مزورة، وأن الأصلية ما زالت لدى سارقها الأول.
العبث اكتمل فى لحظة وصول النائب العام إلى المتحف، وانهيار تمثال كيوبيد الموضوع فى المدخل، التمثال تحطم إلى قطعتين حزنا على اللوحة ، كما سخر المتابعون لتسلسل قصة زهرة الخشخاش .
اللص الطريف ما زال يستمتع حتى الآن بكل الروايات المتضاربة، وغالبا لن تستيقظ الروح الوطنية عنده كما حدث فى فيلم حرامية فى تايلاند ويعيد اللوحة بعد بيعها.. إنه سيبيعها إلى مَن يعرف قيمتها أو على الأقل ثمنها، وهو فاز بلذة المغامرة.. مغامرة سرقة غارقين فى بركة تتسع كل يوم.