وائل عبد الفتاح
أبهرته قاعات المجلس.
صديقنا فى لجنة الخمسين تجوَّل فى برلمانات العالم، لكن قاعات مجلس الشورى، حيث تنعقد جلسات كتابة الدستور، وحيث أُقيمت محاكمة عرابى، وشهدت أول اجتماع برلمان 1924، هنا حيث الهندسة تبحث عن معناها والمعمار المبهر يطارد صراعا سياسيا يلتئم معها، هذه قصتنا مع الدولة الحديثة، الديمقراطية، قصة التئام لم يحدث... صديقنا لم يرَ مثلها. لكنه رأى فيها أيضا المجتمع كله خارجا من هندسة مبارك وورثته فى مرحلتين انتقاليتين بكل ما تكشَّف عنهما من «أنظمة شبه الأنظمة..». نظام تعليم يُخرِّج حَمَلة شهادات ودرجات علمية لكن بلا تعليم، أو تعليم من أجل استكمال «المنظر العام». وكذلك خبراء يعرفون مما تراكمت خبراتهم ما يوفر الوظيفة والاستخدام من أى سلطة، وصحفيون يقفون فى المنتصف بين فِرق البروباجندا، وحفظة الأغانى الحماسية عن الحرية.. لم يقل الصديق ذلك بهذا المعنى، يمنعه الوقار والأدب لكن حكاياته عما يحدث تحت قبة المبنى المبهر تكشف تاريخنا مع «الشىء شبه الشىء».. ديمقراطية شبه الديمقراطية، اشتراكية شبه الاشتراكية، حداثة شبه الحداثة باختصار «دولة تحت الإنشاء» منذ تأسيسها على هامش أطماع، طموحات محمد على الكبير، وارتبط استمرارها ككيان مستقل عن الدولة العثمانية بتوريث السلطة للعائلة العلوية.
دولة مشروطة بالعائلة، ومسار طموحاتها فى الهروب من ظل الخليفة العثمانى، وعاشت بين استقطابين كبيرين، وطنية ترى نفسها فى العودة إلى الخليفة العثمانى لنقاوم المستعمر الجديد (بريطانيا)، أم نعيش كـ«أمة مصرية» منفصلة عن «الجسم العثمانى الكبير» ولو تحت حماية بريطانية.
التأسيس على أطماع سلطوية استعانت بشرعية «الغالب مسيطر»، وشرعية الغزاة، والمماليك، جعل شرعية الدولة الحديثة فى مصر «مجروحة» حسب تعبير شريف يونس، مدرس التاريخ فى جامعة حلوان، وصاحب كتاب «نداء الشعب: تاريخ نقدى للأيديولوجيا الناصرية».
شريف أمضى جزءا من حياته الوظيفية فى المبنى نفسه الذى تجتمع فيه لجنة «الخمسين»، باحثا ضمن فريق طويل وعريض فى إدارة البرلمان، ومراقبا كيف تُدار الدولة المصرية من قلبها، ذلك القلب المجروح فى عملية الانتقال من شرعية الغزاة، إلى شرعية الشعب، كما هى الدولة الحديثة.
شريف لم يلتقِ صديقنا المتجول بين لجان «الخمسين» ويلمح فراغًا فى توازنات القوى، لم يعد هناك مركز يحرك الأطراف بقوته، ويهندس المؤسسات ليحقق التمكين. شريف يسميه «توازن الضعف» بين كل القوى (دولة قديمة ومجتمع وبينهما إسلاميون) يرى صديقنا أن هذا التفكيك سيصنع شيئا، أو تتخلخل به المواقع القديمة، هذا رغم أن المجتمع أو كما تعكسه الصورة الموجودة منه تحت القبة الفخيمة، يعانى التهتهة، أو ما يمكن أن نقول إنه تزامُن فعل الخروج عن القواعد القديمة والالتزام بها معًا.
فى الدساتير السابقة لم يكن هناك سوى إرادة الحكم، وهذا لا يصنع دولة ولا مؤسسات. المؤسسات تصبح أشكالا وهمية، نماذج ورقية، يقف عليها كبير يختاره الرئيس، وحسب سطوة الكبير عند الرئيس أو فى مواجهته، يكون تأثير المؤسسة ونفوذها.
إقطاع سياسى أكثر منه مؤسسات دولة، والفارق هنا كبير بين البداية (عبد الناصر) والنهاية (مبارك)، ناصر ساحر يخرج من بين ضباط يوليو، يوازن بين حكام إقطاعياته بمشروعية الجاذبية الجماهيرية، والأُبوَّة الحنونة، القادرة على صنع معجزات فى مجالات محددة، لكنها لم تستطع بناء الدولة. مبارك تعامل بمنطق كبير الموظفين، ومؤسساته منزوعة الفاعلية لأنها إقطاعيات يدير كل منها موظف، نصف مستشار، لرئيس تحميه بيروقراطيته، وخلفيته فى الإدارة العسكرية.. وهو ورث الدولة، أو مشروعها فى إطار «تربية الشعب» لا بناء شرعية الدولة على أساسه، ورثها عاجزة أضافت إلى جرحها (عجز عن الوفاء بالعقد الاجتماعى المصرى: الشعب يذهب للنوم، والسلطة تصرف عليه). هكذا انتهت الدولة وإقطاعها إلى عصابة تمتصّ دماء الدولة.. عصابة وحوش مهووسة بالمال والسلطة.. وحوش لا تشبع.