وائل عبد الفتاح
هناك كثير يقال عما حدث فى كوماسى.. لكن أكثر ما بهرنى حزنا صورة أبو تريكة.. نشرها صديقى أحمد بحار على «فيسبوك».. مجنون أولتراس الزمالك والعاشق المتيم.. والمحارب من أجل المتعة حتى لو اتهمته بالسذاجة أو المراهقة إلا أن هوسه بالفانلة البيضاء يهزك.
بحار استوقفته مشاعر تلقائية التقطتها صورة أبو تريكة بعد انهيار المنتخب أمام غانا، انهيار و«قهرة» بدت فى الصورة تعبيرا عن خيبة صافية أو شعور بتبخر حلم كان أبو تريكة أكثر من أى لاعب آخر يستحقه.
شعور بخيبة الموهبة فى عبور الأحلام حاجزا يشبه القدر.. يجعلها تدور فى دوائر لا نهائية تتكلس عندها مشاعر فقدان الثقة، الإحباط، الأساطير المؤسسة للعجز.
فى ٢٠٠٨ صنعت صورة أبو تريكة صدمة من نوع آخر.
كنت يومها مسؤولا عن تحرير جريدة «البديل».. وفكرت فى تخصيص عدد العيد عن «البهجة».
كان الموضوع غريبا فى ظل طواحين الشكاوى من الفقر والفساد والاستبداد.
كيف تبحث عن بهجة وسط كل هذه المآسى؟
كيف نوقف دورة عمل تتقصى عن مواطن الفساد والاستبداد لنبحث عن أماكن البهجة؟
حاولنا فى العدد التفكير والبحث عما يبهجنا فى بلد كان يسير إلى التعاسة بكل قوته.
لصوص يسرقون كل شىء.. ويتركون للملايين الحسرة أو التكيف أو الشعور بأن الدنيا أضيق من مساحة القبر.. فيعيشون على أمل حجز مكان فى الجنة.
اخترنا يومها صورة أبو تريكة لأنه صانع بهجة، فيه يرى الفرد العادى قوة انتصاره على كل العجز وقلة الحيلة.. يخطف بموهبته ما يمكنه أن يصنع أكثر من هدف فى مباراة.. له سحر خاص.. ليس ابن الصناعة الكبيرة لنجوم الرياضة.. لكنه يذكر دائما بموهبة العبور من مستنقعات الفقر كما كانت نجوم البرازيل فى سنوات ماضية، يضاف إلى سحر موهبتها جاذبية تخطى حواجز الفقر والمرض.
لم أتعامل معه يوما على أنه «قديس» كما يسميه الجمهور الأهلاوى، ولم أره شيخا أو إخوانجيا كما يفسر قطاع واسع اهتمامه بتفاصيل متعلقة بالعبادات أو بالحرص على إظهار علامات التدين علانية أمام الجمهور.
أبو تريكة ابن موهبة طارت من موقعها فى عالم الشهرة والمال.. لكنها بقيت بعقلها كاملا خارج هذا الانتقال.
لم يصعد أبو تريكة السلم الاجتماعى ولا انتقل إلى رتبة البارونات، وبقى باحترافه قريبا إلى حد كبير من موهبة الحوارى، بعيدا إلى حد ما عن تأثير «صناعة الكرة» بما تمنحه من تطوير فى المهارات وبناء للعقل والجسد معا.
بدا أبو تريكة بالنسبة إلىّ قادما من زمن قديم، ومعجزته أن يلمع فى زمن لا يعترف بالحوارى ومواهبها.. بل لم تعد سوى مصدر للجرائم والتعاسة.
أبو تريكة استغنى عن ما تمنحه النجومية من دخول فى عالم «البارونات» كما فعل الخطيب مثلا أو كما حاول نجوم أقل موهبة منه.. هو بارون خارج مجتمع المصالح الذى نسج شبكته بين الرياضة والبيزنس والسلطة.
أبو تريكة ظل بعيدا عن هذا العالم بأبيضه وأسوده.. مقيما عند حسه الأول.. ليس بعيدا عن عالم البارونات.. لكنه ليس منهم.
وهذا تقريبا ما جعله يقف وحده ضد هجمة البارونات على أولتراس من أجل إقامة مباراة السوبر الشهيرة.
هذا الموقف أظهر أن لدى أبو تريكة ما يحركه غير المصالح.
لديه مشاعر لم تدخل فى ماكينات..أو دخلتها وارتاحت فى البقاء خارجها.
هذا ما يجعله يرى اللعبة.. لعبة وليست ماكينة تدر الثروات على البارونات.. لعبة يمكن أن تقف احتراما لمشاعر أو بحثا عن حق.. أبو تريكة ما زال يلعب بينما كل الوسط المحيط به يبحث عن دوران عجلة المصالح.
وسط رياضى بالكامل لا توقفه تفاصيل مذبحة جمهور اللعبة فى بورسعيد.. ولا يهتز لأن مؤامرة التغطية على مرتكبى المذبحة.. ما زالت مستمرة. أبو تريكة وقف وحده مع الأولتراس ضد كل من حولوا الصناعة إلى مافيا.
مافيا تمتص كل ما فى اللعب من متعة وتحوله إلى حرب مصالح صغيرة تربط بين اتحاد الكرة ومجالس إدارة النوادى وعكاكشة الإعلام الرياضى.. دائرة واحدة لم تخجل حينما سارت خلف جمال مبارك فى كارثة الجزائر ولا عندما قادت الثورة المضادة دفاعا عن نظام مبارك، ولا عندما وجهوا حملة ضد الضحايا لصالح القتلة.
لهذا كان حلم وصول أبو تريكة احتفالا بموهبة صنعت وجودها كأسطورة عكس التيار وظل صاحبها قادرا على الاستغناء.. أو الإفلات من جاذبية المافيا وخطابها المبتذل.
وربما كان هذا ما جعل صورة القديس أكثر ما هزنا فى كوماسى.