وائل عبد الفتاح
بكى نبيل الهلالى.
لا يملك أبطال هذه الواقعة حسًا تراجيديًّا، كى يفهموا لماذا بكى «القديس اليسارى» عندما استمع إلى شاب (اسمه حسب روايات محمد النجار) ينشد «غرباء» من خلف القضبان وخلفه كورس من أمراء وأعضاء الجماعة الإسلامية المتهمين بقتل رفعت المحجوب (رئيس مجلس الشعب وقتها سنة 1993).
الهلالى التقط الحس التراجيدى، لحظة الحكم بالإعدام على المتهمين (والقضية لغز كبير لم يحل حتى الآن.. لأنها فى إحدى الروايات جزء من صراع السلطة للتخلص من المحجوب، الذى كان مرشحا، حسب الرواية نفسها، ليصعد فى سلم المناصب السياسية الأعلى).
الهلالى تربية مخالفة. سلسل أرستقراطية (شاركت فى الحكم، أبوه هو آخر رئيس حكومة فى العهد الملكى) واختار اليسار والشيوعية، والمحاماة دفاعًا عن الحقوق (العمال) والحريات (له جولات تاريخية دافع فيها عن تنظيمات كانت تضع اسمه على قوائم الاغتيال).
قديس، تتولد عنده المشاعر بتراجيديا كورس يغنى مظلومًا نشيد، الغربة فى سبيل عقيدته (أصل كلمات النشيد لها أكثر من رواية بين أنها لشاب من بلاد الشام وآخرون يعيدونها إلى شباب «الصحوة» فى السبعينيات).
التراجيديا بما فيها من احتفال ببطل لا يساوم، لايقبل الحلول الوسطى، يقاوم فى كبرياء، تبدو هنا أقرب إلى أصل هذه «الصحوة» التى بدت أنها ومضة فى لحظة الهزيمة، يونيو1967، وانكسارات مشاريع دولة التحرر، واحتضار الدولة بعد تفسخها وعجزها، فخرج من أطلال، أو من بين زفرات الاحتضار، أبطال من خارج الزمن.
وكما رأيت فى صورة شكرى مصطفى، «بطل» من نوع جديد. ملامحه لا تشبه النماذج السابقة. قاتل لكنه لا يشبه القتلة العاديين… وزعيم عصابة لكنها عصابة غير تقليدية… إنه أمير «جماعة المسلمين» التى أطلقت عليها الصحافة اسم: «التكفير والهجرة».. وصورته نشرت عقب اغتيال الشيخ الذهبى وزير الأوقاف وقتها وحوكم هو و5 من أعضاء التنظيم وحكم عليهم بالإعدام.
ابن موت.. هذا ما تقوله نظرة «أمير الجماعة» القادم من زمن مختبئ تحت السطح. بوهيمى لكنه مختلف عن موضة هذه الأيام من السبعينيات. ملامحه مخطوفة إلى شىء بعيد… على وجهه حفرت مشاعر غربة من نوع يشبه غربة الريفيين فى المدينة أو البدو فى قلب الحضارة الحديثة.
لا تعطى صورته انطباعًا بالإجرام التقليدى… على العكس توحى بالتعاطف مع شخص يقف على حافة الجنون.. يثير التعاطف والخوف معًا.
هذا ما التقطه قديس اليسار، فى «غرباء» يتزاحمون على قضبان زنزانة، يسيرون خلف سراب اسمه «الصحوة» ويرونه طريقهم إلى الجنة، ويخلصهم من مصير أرضى، حياة واقعية، ليكونوا أنبياء.
عندما بكى الهلالى كان زعيم الواقفين فى القفص صفوت عبد الغنى، الذى أصبح بعد سنوات رئيس حزب إسلامى (داعم لمرسى، مشارك فى جنى ثمار «الصحوة»)، وذلك بعد رحلة حصل فيها على دكتوراه فى التعددية السياسية، تغيرت ملامحه، غادر ملامحه لحظة «غرباء» الأولى، لكنه لم يصل إلى المرحلة الأليفة، وغادر أيضا اللحظة التراجيدية، ولم يعد إلى الواقع، لكنه بقى معلقًا فى واقع افتراضى، يتضمن كل هذا فى خلطة، هى كل مابقى من «الصحوة»، خلطة مقاتل، أو إرهابى، ودارس للتعددية السياسية، دراسة للاستخدام فقط، وليس للمعرفة ولا لتكوين وعى يغادر به مواقع الإرهاب، وأخيرا سياسى يلغى السياسة بإعلانه مؤخرًا على منصة «رابعة العدوية» وأمام جمهورها الأسير: «أنتم هنا لتدافعوا عن الدين..».
هكذا تحولت التراجيديا إلى ميلودراما، تحول لم يكن مدهشًا، تقوده جماعة الإخوان، أشهر تنظيمات صنعت من نفسها ضحية، حتى ابتذلت التعاطف معها.
لم يعد لدى منشدى «غرباء» إلا ابتذال النشيد، العودة إليه، بكاء على مغادرة السلطة، وربما لنكتشف أن الإنشاد الأول كان لنفس السبب، افتقاد السلطة.
«الصحوة» لم تكن اكتشافًا للإسلام «الغريب»، لكن لفرصة القفز على مقعد السلطة. هزيمة دولة جنرال التحرر كانت الممر لمن بدا مصيرهم تراجيديا، ويلهثون الآن باتجاه أقصى أنواع الميلودراما.
هؤلاء الذين حولوا قاعة مناسبات فى مسجد رابعة إلى غرفة عمليات سلاحهم فيها كاميرا يحدثون منه الغرب (الذى تقوم فكرتهم على تكفيره، أو أنه الشيطان الأعظم، موطن الشرور). فى هذه القاعة نفس الهرم التنظيمى، القيادات أمام الكاميرات والقيادات الأعلى فى الدور الأعلى، والأوامر تصدر بينما فى الساحة جموع موهومة بأنها فى حرب دفاع عن إسلامها، طريقها للجنة.
كيف تدخل السياسة بمنطق أنك «مشروع شهيد»؟
من أقنعك أن الدفاع عن السلطة، جهاد، وأن الحكم ما زال خاضعًا لحروب البيعة؟
من غرفة عمليات، فى مسجد، يقود الباقون من قادة الإخوان حديقة مفتوحة لسلالات المهووسين بأحلام «الصحوة»، ويخرجون من التراجيديا بكل ما لديهم من هوس، وانفلات أعصاب، اللحظة التى يدركون فيها أنهم سيعودون، جميعًا هذه المرة، إلى «غرباء»، لكن ليس فى السجون، إنما فى معازل، مستوطنات عقاب، من المجتمع قبل السلطة، أى سلطة.
هنا يضعون «الدين»، الإسلام، أو «دين الصحوة» الذى قيل عنه فى السبعينيات والثمانينيات الدين الثورى، الذى روجت له البروباجندا الإعلامية بأنه لاهوت تحرير، يذهب إلى آخر مطافه بالهزيمة فى «غزوة المقعد الكبير» يتوسلون اليوم «صناديقهم»، خوفًا من العودة إلى الزنازين.
الميلودراما الإخوانية، الإسلامية، إشارة خروج من زمن «الصحوة» بعد أن كانت فى خطاب ترويجها تشبه القدر كما قالت خطابات الترويج لقادة تنظيمات الإسلام السياسى، إلى نخبة تعانى شعورًا تاريخيًا بالذنب يجعلها تتجه إلى تعليب الشعب، ومرورًا طبعًا بمراكز التفكير فى أوروبا وأمريكا التى تكاد تضعنا فى الأكليشيه السخيف كسكان كهوف وعابرى صحراء، حيث يتجاور الجمل وسيارات الدفع الرباعى.