وائل عبد الفتاح
هل تُولَد الدول السعيدة بالأمنيات؟
لنتخيل أن الأصل فى السياسة، بكل ما تعنيه من عمليات إدارة الحكم، وبناء مواقف تتطور بها أدوات الحكم، هو الحصول على السعادة، وفى الديكتاتورية يحتكرها شخص واحد، وحاشيته وعصابته، أما فى الديمقراطية فتتسع نطاقات السعادة.
هذا اختصار سيبدو للبعض مخلًّا، أو رومانتيكيًّا حالما أو منفصلا عن الواقع، كما يحب المتورطون الغارقون فى الواقعية اعتبار أن الواقع فقط، قلة الإمكانيات أو محدوديتها أو عجز الخيال.
وكلما سمعت طلب «خليك واقعى» يتبعه كلام عن تحجيم الخيال، والنظر إلى الممكن، وهذه السياسة، لكن الثورة هى توسيع هذا الممكن، وكسر الأسوار المقامة حول واقع مغلق تتوزع فيه الأنصبة والمصالح حسب قوانين لم تعد صالحة.
الواقعيون هم مقبرة الثورة، أما حفّارو هذه القبور فهم الخائفون من التغيير، عبّاد الاستقرار، اللاهثون باتجاه الأب بعد أن يموت الأب، والطالبون لمغفرة سلطة ظالمة بعد الثورة عليها.
لكن هؤلاء لهم معذرة، سعادتهم فى الحفاظ على مواقعهم، والتواطؤ مع الأفق المسدود باعتباره الجنة الممكنة.. و«خليك واقعى.. أحلامك ودِّتنا فى داهية.. وثورتك نكستنا..».
إنهم يرددون خطابات أسياد مرحلة الفساد والاستبداد، هؤلاء الذين حجزوا مواقع متقدمة فى مدرج السلطة، حين كان كل حياتك يمرّ فى البحث عن دائرة علاقات تمنحك النفوذ، أو أرقام تليفونات ضابط أو وكيل نيابة يعيد إليك الرخصة، أو يحميك من حفلات أقسام البوليس.
لن تفرق معهم هؤلاء أن تمر الحياة فى تلك العمليات السخيفة، لكن مَن يردد كلماتهم تعبيرا عن عدم استيعابه للتغير ما دام يؤثر سلبًا (فى الدخل والأمن..) تلك الرشوة التى تمنح نظم الاستبداد.. لهم بعض العذر. إنهم واقعيون تعوَّدوا على العيش بالرشوة، وحياتهم ترتّبت فى انتظار «مستبد عادل»، المهم العدل، ولهذا وجد عشاق عبد الناصر متسعا للاحتفال وترويج فكرتهم: «.. إن مستقبلنا السعيد فى ماضى الديكتاتورية النبيلة..».
كل هذا ليس عيبا فى حد ذاته، فجماعات المنتظرين لعودة الزعيم أو الأمير سيظلون كذلك، لكنهم يشعرون بالزهو فى غياب بدائل، أو عدم قدرة الشعب الذى نما فى الصحراء التى كانت قبل الثورة على مقاومة التصحر الجديد.
بمعنى أن الثورة جاءت بعد عملية تصحير ممنهجة من نظام مبارك، قامت الثورة دون أحزاب، ولا كيانات سياسية، ولم يكن فى مجال الرؤية سوى شجرتين قديمتين الأولى لمنتظرى الخليفة (الإخوان)، والثانية لمنتظرى المستبدّ العادل (الناصريين)، وعلى اختلافهما فإنهما تنتميان إلى أيديولوجيات شعبوية، لها علاقة سلطوية بأتباعها.
الثورة انفجرت والبلد كله صحراء، يقيم مبارك قلعته بجهاز أمنى، وعلى هامشه شجرتان إحداهما أكبر من الأخرى، وكلتاهما شاركت فى الثورة التى قامت على السلطوية من أجل استرداد الحق فى أن تكون الشجرة الواحدة.. غابة.
وعندما تصور الإخوان أن شجرتهم ستحتلّ الصحراء وحدها، وكانت معركتهم الحقيقية ليست مع السلطة أو النظام أو مؤسسات الدولة العميقة ولكن مع مَن نشروا العشب الأخضر فى الصحراء.. كيف يحرقون الأخضر الذى ما زال بلا جذور؟ وكيف تعود الحياة السياسية يابسة لتتحول الشجرة إلى مظلة حكم الفقيه القادم من عصر الظلمات الأسود؟!
العشب، الذى ينتشر بلا جذور كما يقول صديقى، الذى شعرت أنه قديم من أول جلسة، الدكتور طارق أبو النجا، لكنه قادر على تفكيك تلك الجذور القديمة للسلطوية، وانتظار المخلص الهابط من سماء النبوة أو البطولة المطلقة، ساعتها فقط يمكن أن تكون للعشب الأخضر جذور.
لِنفكِّر قليلا... لا تمكن العودة إلى الصحراء والتخلص من الإخوان باعتبارهم خطرا، وليس تنظيما قريبا، ولا بد من التفكير: ماذا بعد...؟
هل ننتظر مخلصا، بطلا، مهما كان نُبله (ينافس نُبل عبد الناصر) فإن دورة قدرته على السعادة قصيرة قِصَر الفُرجة على فيلم فى السينما، فإن البطل بعد أن يهزم يتحول بطلا على الشعب الذى صنع منه البطولة خصوصا عندما يعود الشعب إلى الكنبة منتظرا المعجزات.
هذا معناه، وبوضوح، أن هناك إمكانية للتصالح مع التاريخ ليس من مدخل التمجيد وتأكيد الأسطورة، لأن المجد عندما يكون فى الماضى فإن بؤس الشعوب يتجلَّى بانحطاط بالغ، كما أن الأساطير عندما تكبس على الأنفاس تتحول الأفكار إلى مجرد زغاريد أو لعنات. هكذا، فإننا من سنصنع سعادتنا، إن أردنا، أو على الأقل يمكن أن نسير فى رحلة إليها، إذا نظرت إلى الماضى بغضب وتخلصت من ثقله مع الاحتفاظ بالمحبة، فالفرد يقتل الأب بالمعنى الفرويدى ليولَد كائنا حرًّا، وهذا لا يلغى المحبة الواقعية للأب.
أَحِبُّوا عبد الناصر لكن لا تجعلوه جاثمًا على الصدور. أما الإخوان فشجرتهم ستتحول إلى مزار للسياحة السياسية.
.. هل يمكن التخلص من كل هذا الثقل؟
هل يمكن التفكير من خلال علاقة السعادة بالسياسة؟ دعنا نجرِّب هذه العلاقة كمدخل لنرى أين نحن وإلى أين سنذهب.