وائل عبد الفتاح
ضحك بهاء طاهر قبل أن أجلس على مقعدى.
سألنى: «... هل عندك أخبار تجعلنا نتفاءل؟».
تقابلنا صدفة على مقهاه المفضل فى الزمالك «عمر الخيام».. والحوار أخذنا إلى تفاصيل الأخبار والحظر «الذى لم يعد محتملا..» و«إلى متى سيستمر هذا التهديد..». لم يقتنع بهاء تماما بأن «جسم جماعة الإخوان أو هيكلها تلقى ضربة قاصمة..» كان هناك ما يجعله يرى خطرا فى حركة هذا الجسم. الخطر يتجسد كما شعرت به فى استمرار قناة مثل «الجزيرة» فى عملها التخريبى«..إنها تضعف المعنويات» بصناعة أكاذيب مؤسسة على خطة/ مؤامرة. «الجزيرة» التى كان يكتب ترددها على الجدران واللافتات. طوال الـ18 يوما فى الثورة بحثا عن «صوت» و«صورة» هاربة من التشويش أصبحت الآن موقعا ملعونا، وكأنها إذاعة موجهة تهدف إلى رفع معنويات جمهورها. ولبهاء طاهر حساسية خاصة لها دور فى التركيز على ما تفعله «الجزيرة» فى استمرار الأوضاع بالقاهرة، ورغم أنها فقدت جمهورها أو تأثيرها فإنها «سلاح» يدركه من بدأ حياته فى «التواصل» مع جمهور عبر «الإذاعة». وكما كتبت عنه من قبل: بهاء طاهر لا يلعب.. يبدو فى مهمة دائما محارب فى رحلة البحث عن أرض جديدة، لا يمكن أن تنسى مشهد عبوره الشارع.. كأنه يمر بين طبقات الهواء. خفيف. ربما سيطير بعد لحظات. ومثقل بآلات حرب قرر أن يدخلها وحده نيابة عن الجميع. هو حكيم من أيام الفراعنة أو معلم يفتح نوافذ المعرفة بالحياة أو قائد اجتماعى يرسم خطط العلاقات بين الناس.. أو دليل فى الصحراء الغامضة.. أو أنه شخص فى مكان آخر. وحده. يحلم بمستحيل مثل بطله فى «بالأمس حلمت بك». اختار أن يكون فى قلب جاذبية اللحظة الراهنة. ينتقل فى مسافة بين شرفة بيته المطلة على جانب من القاهرة وأريكة يستسلم عليها لعذاب يومى مع نشرات الأخبار فى التليفزيون. أعلن أكثر من مرة أنه اعتزل الصحف والتليفزيون. لكنه يعود. تجذبه الرسالة التى يحملها لجمهور واسع إلى توازنات رحلة مختلفة عن بداياته. رحلاته الأولى محاولة لاكتشاف ذات مجنونة بالأحلام المستحيلة. ذات غريبة تقاوم سلطات تحت جلدها. وتبحث فى الصحراء عن ممرات لحقيقة أكبر. كان بهاء وقتها مذيعا فى الإذاعة وبينه وبين الجمهور خطوط تواصل صنعها بصوته المؤثر وبمهارات درامية». بهاء من جيل «الرسائل الكاملة» الذين يؤمنون بأن الكتابة/ الأدب جزء من عملية الوعى والكشف ونقل المعرفة إلى جمهور يعيش فى ظلام/ أو غيبة ما. الأدب هنا تعبير عن جمهور وإفادة لهم فى كشف القضايا الغائبة والأديب «داعية» إلى المعرفة والحقيقة. من هنا تبدو أهمية «الرسالة».. ودورها الخطير فى الحروب بمنطق: قل لى ماذا تسمع وتشاهد، أعرف وعيك وموقفك. ضحك بهاء مرة أخرى وهذه المرة ضحكته ممزوجة بالسخرية: «.. سأحكى لك نكتة.. لا توعى عليها». وحكى عندما كان سيد قطب مستشارا لمجلس قيادة الثورة أيام محمد نجيب (بالتحديد مستشار عمالى لضابط اسمه عبد المنعم أمين الذى كان منتميا للإخوان) وأيامها كان سيد قطب يدير الإذاعة تقريبا وأصدر تعليمات/نصائح بعدم إذاعة الأغانى فى الإذاعة (.. وعندما بحثت عن تفاصيل أخرى من حكاية الأستاذ بهاء عثرت على تعبيرات سيد قطب عن هذه الحالة التى طالب فيها بإسكات تلك «الأصوات الدَّنِسة» مثل محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش ومحمد فوزى وليلى مراد وسيد درويش وعبد العزيز محمود.. ولكى يقنع الضباط قال لهم إن الإذاعة قد تفانت فى إرضاء الملك لمدة ربع قرن وبات المطلوب تربية جديدة للشعب تظهر رجولته، واعتبر سيد قطب أن مادحى الملك والمنشدين/ كما اختصر نجوم الطرب، تحبهم الجماهير كما تحب المخدرات، وواجبات الثورة/ كما قالها للضباط: صيانة الضمائر والأخلاق من التميع والشهوات المريضة). التعليمات إذن ارتبطت بتصور سيد قطب للدور الرسولى/ الذى يعيد تربية الشعب على كتالوج يخص أفكاره/ وهو تصور العقل الفاشى/ الذى يتعامل مع الفرد والشعب على أنهم قطيع فى حضانات التربية الرشيدة. وحسب حكاية بهاء طاهر كانت تعليمات سيد قطب بأن يتحدث المذيعون بالفصحى (أى يلغى تراث وثقافة ولغة شعب من أجل مهام التوحيد القياسى) وأن تقتصر إذاعة الأغانى على الأغنيات الدينية بالفصحى.. وبالفعل ظلت الإذاعة المصرية طوال 18 يوما تذيع نهج البردى ويتبعها «ولد الهدى هكذا طوال اليوم... وهنا شعر المصريون بالملل وبحثوا عن إذاعة أخرى ولم يجدوا وقتها سوى إذاعة «الشرق الأدنى» التى كنت إحدى الإذاعات التى أنشأتها بريطانيا فى الحرب العالمية الثانية وتبث من قبرص. (كانت إذاعة الشرق الأدنى جزءا من خطة بريطانية ردا على إنشاء موسولينى إذاعات موجهة باللغة الإيطالية واللغات المحلية وتوزيعه لأجهزة راديو على جمهور واسع، خصوصا فى مصر فى أثناء الحرب العالمية لكى يستمع إلى خطاباته، حيث كانت الفاشية رائدة فى مجال ما يسمى «قوة الراديو»: أعطنى ميكروفونا أعطك شعبًا مفتونا بالديكتاتور، الإذاعة التى تأسست فى «يافا» سنة 1942 ظلت علاقتها سرية بالحكومة والمخابرات البريطانية، رغم أنها كانت تعزز عبر نشرات أخبارها مكانة ووضع بريطانيا وقت غروب شمسها، وانكشف دور الإذاعة بشكل واضح فى العدوان الثلاثى بعد تأميم قناة السويس). وكما يحكى بهاء: هجر الجمهور المصرى الإذاعة المصرية وتوجهت مؤشراتهم إلى إذاعة الشرق الأدنى التى كانت تذيع إلى جانب أصوات نجوم الطرب المصرى صوتا جديدا فى الأغانى/ والإعلانات هو صوت فيروز، ويقول بهاء: كنت تسير فى شوارع القاهرة فلا تسمع من أجهزة الراديو إلا صوت إذاعة الشرق الأدنى من الأغانى إلى نشرات الأخبار ولم يعد أحد يسمع نشرات أخبار إذاعة القاهرة، وغضب عبد الناصر وقال لسيد قطب ومن معه: «إنتو عاوزين تكرهوا الناس فينا» ورغم أنه ألغى قرار عدم إذاعة الأغانى فإن الجمهور ظل منصرفا عن الإذاعة المصرية ونشرات أخبارها، ففكر عبد الناصر فى طريقه لإعادة جمهوره، فخرجت فكرة مسلسل الخامسة والربع وقت إذاعة نشرة أخبار «الشرق الأدنى»/ وهى الفكرةالمستمرة حتى الآن، وكان أول مسلسل «سمارة». وضحك بهاء فى نهاية الحكاية/ النكتة:«... كما ترى فإن كل اقتراحاتهم تؤدى إلى الكارثة».
هذه حكاية من «حكايات القاهرة» صفحتى الأسبوعية فى صحيفة «السفير».
نقلًا عن "التحرير" المصرية