وائل عبد الفتاح
الفارق كبير بين «بناء الدولة» و«بناء هيبة الدولة»، البعض يتوه بين المعانى ويختلط عليه الأمر... فيتصور أننا بعد سنة الإخوان السوداء مهمتنا الآن إعادة «هيبة» الدولة حتى لو كانت هذه الدولة ميتة.
نعم دولة الاستبداد ميتة، جثة، ومن سيحييها مخادع، صانع خرافات لن يحى سوى «سلطويتها» الفارغة أو هيبتها التى لا يهمها إن كانت دولة ناجحة أو فاشلة. عادلة أو ظالمة. متقدمة أو تغرق فى تخلفها. المهم الهيبة...أى الخوف الذى يجتاحك عن لقاء ممثل هذه الدولة، أو رمز سلطتها... أو بمعنى آخر أن ترسم كل مؤسسة حول نفسها خطوطًا حمراء فوق النقد، وبعيدا عن اللمس، أو الاقتراب.
عندما يقتل جندى فى سيناء أو يخطف ضابط، فالإرهابى لا يعتدى على هيبة الدولة، لكنه يقتل فردًا ويعتدى على حق الحياة... والفارق كبير، فالدولة ستكتسب هيبتها من ممارسة السلطة بالتعسف، والأغانى، والدعايات الكاذبة.
لكن الهيبة لن تعيد الكفاءة التى تحميها من الإرهاب، ولا الحاجةالتى تحمى حياة وأمن الجندى أو الضابط.
هذا فارق كبير فى «عقيدة» المؤسسات التى يتحدثون كثيرًا هذه الأيام عن هيبتها، وقداستها، وتمعن قطاعات محبة لهذه المؤسسات وعاشقة لها، فى رسم خطوط حمراء حول هذه المؤسسات. وهذه العواطف صادقة. كما أن تبخرها سريع أيضا. فالقطاعات التى أحبت الجيش مثلا وقدست دوره، أو حتى شعرت بالخوف من المخابرات الحربية أيام عبد الناصر، هى نفسها التى سخرت من قيادات قادت إلى النكسة، وغنت مع إمام ونجم أغنيات النقد المؤلم، وهى نفسها التى انفجرت فرحًا بعد عبور الهزيمة فى أكتوبر ١٩٧٣.
لم يكن متاحًا مساحة النقد والحرية التى انتزعت اليوم انتزاعًا وليس مؤامرة كما يتوهم أصحاب المصالح الذين يريدون العودة إلى زمن الحكم بالكهنوت وإدارة البلاد من غرف مغلقة والبحث عن واسطة لحل أى مشكلة.
لم يتم بعد استيعاب هذا الانتقال من الخوف إلى الحرية، ومن التدجين إلى المشاركة أو الشعور بأنه يمكن لكل فرد يسهم أو يؤثر فى مستقبل البلد.
فى مصر حلم لن يموت بدولة جديدة... هيبتها هى حياة الفرد وكرامته وحقوقه. فى هذه الدولة الدفاع عن حياة كل جندى لا الدفاع عن هيبة فارغة ونفخة كاذبة.
الجندى أهم من المؤسسة التى بنيت على استعباده وتحولت إلى شركة بيروقراطية لإدارة مصالح اقتصادية.
الفرد أهم من الدولة كلها، لأن حياة وأمانة أهم ألف مرة من الطاولة التى يلتف حولها حاكم فاشل ومسؤولون يطبلون للفشل ويغردون له.
دفعنا وندفع أثمانًا باهظة لدولة من عصور ما قبل الدولة... دولة من عصر الاستعباد.. دولة قامعة.. فاشلة.. مستبدة.. كاذبة... دولة كلما تعلقنا بأذيالها سرنا إلى مقابر جماعية.
نريد دولة جديدة الفرد، الجندى، الضابط فيها أهم من قائد الجيش... والرئيس موظف لا مبعوث عناية ومندوب السماوات العليا....
هذا عقد اجتماعى لدولة جديدة
من يتحدث عن هيبة دولة العقد الاجتماعى الجديد.. فإنه داعية استبداد... ليس ذلك فقط.. إنه فاتح أبواب للفاسدين وممرات للإرهابيين ومبشر بكوارث انتقالنا إلى قائمة الدول الفاشلة...
مرة أخرى الدولة معجزة المصريين التى تحاصرهم، «تكبس» على أنفاسهم، ترسم لهم مسارات تضع وجودها مقابل خضوعهم.
هذه هى الدولة، ماتت وأشباحها تعود من جديد. بألف روح وحياة عكس كل ظروف عودتها من مدارها المستبد. تبدو الدولة هنا أهم من وجودها ذاته.
الدولة تفككت قبضاتها القديمة بعد ٢٥ يناير، ومن شقوقها نما المجتمع وقوته الحرة... والعشوائية معا... كيف سيعد جسد الدولة بعد تغير الفضاء الذى تعودت على احتلاله؟
هيبة الدولة مفهوم قديم يتم ترويجه فى أجهزة الترويض والتضليل على أنه المفهوم المطلق والوحيد كما كان الطوارئ لا بديل عنه، والرئيس لا يمكن المساس به، وهيبة الشرطة أساس الأمن.
مفاهيم سلطوية تتسرب عبر أجهزة الدعاية للنظام فى المدارس والتليفزيونات والصحف إلى درجة لا تجعلها مجرد مفاهيم يمكن تغييرها.. لكنها أقدار أو حقائق مطلقة.
ماذا تعنى هيبة الدولة؟
لا شىء.
المواطن سيد على الدولة. وحق موطن واحد ضائع... لا يجعل للدولة هيبتها. وكما قلت من قبل: دولة تضيع فيها الحقوق لا هيبة لها. دولة يحمى فيها القتلة لا هيبة لها. دولة يحرض فيها الضباط الأهالى ضد الألتراس لا هيبة لها. دولة تصنع حربا أهلية لا هيبة لها. دولة العدل فيها غريب لا هيبة لها. دولة تحشد كل إمكانياتها من أجل مباراة كرة بلا أهمية لا هيبة لها. دولة تعاند مواطنيها لا هيبة لها. دولة تضع شرطتها فى قهر مواطنيها لا تنظيم حياتهم. دولة تنظر لمواطنيها قطيعًا من عبيد وضحايا محتملين.
نقلًا عن "التحرير" المصرية