وائل عبد الفتاح
كلما سمعت كلمة مصالحة.. تحسّست الخطر. لأنها تقال عادة من منطقة العواطف أو الخوف. وهذا يعنى أن العقل يرفض الفكرة، والأدق أنه لا يفهمها. المصالحة فعل مهم، خصوصا فى حالة مثل التى نعيشها، لا هى حرب أهلية كما تقول الكتب، ولا صراع على السلطة.. لكنها مجتمع يواجه نفسه. طبعا ليس على طريقة تحفة الكراهية الباهرة «إحنا شعب وانتو شعب»، ولكن المجتمع الذى كانت الدولة تجعله ينام مبكرا، وتتعامل معه كقطيع يحتاج إلى ترويض بتوفير الخدمات الأساسية على شكل منح أو هبات أو رشاوى. هذا المجتمع، الذى كان قطيعا، لم يكن يهتم بشىء، ما دام كل شىء مستقرا، والضابط الساكن فى القصر سيعيد الاستقرار فى أى لحظة، فهو «الأب» الذى يعرف أكثر، والمطلوب منا طاعته، هو الذى يحدد الأعداء والأصدقاء، ويرسم هندسة الشوارع لنسير فيها، وهو الذى يضع التنظيمات والتيارات فى مواقعها داخل «الديكور الديمقراطى». الإخوان كانوا جزءا من «الديكور الديمقراطى» فى إطار مرحلة «التقية» أو التخفى حتى تحين اللحظة المواتية لوضع أساس دولتهم التى يحلمون بها، منذ أن كتب سيد قطب عن «الجاهلية» التى نعيش فيها وفرض الجهاد من أجل إعادتنا إلى الإسلام، أو بمعنى أوضح إدخالنا إلى «دين الإخوان». المجتمع كان يرى الإخوان كما كانت تراها السلطة، تنظيم سهل الاستخدام، لا بد من وضعه دائما تحت اللجام، طيبون، لكن لا تأمن لهم تماما. فهم زئبق مبتسم، لا تعرف صفقته القادمة. لكن له قوام، تنظيم واضح هو سر حياته. هذا التنظيم الزئبقى، سهل الترويض اختفى الآن، لم يعد له وجود، نحن أمام تنظيم يدافع عن سلطته، فرصته لتأسيس دولته.. وهذا التحول من التقية إلى السلطة عبء الآن على الإخوان: قيادة «تتفاوض حتى النفس الأخير أملا فى النجاة» وجمهورا «فى روحه ندب غائرة وشعور بأنهم غرباء فى مجتمع كافر». مع من تتصالح؟ القيادة أم الجمهور؟ هذه أسئلة تعوق التفكير.. لأن التصالح مع قيادة اسمه صفقة، ومع الجمهور عملية اجتماعية طويلة المدى تحتاج أولا وقبل كل شىء توقيف العنف، والانتهاكات وقبلها نغمة الكراهية المغلفة برومانسية قاتلة، إحنا.. وأنتم. إذن المطلوب ليس الكلام على مصالحة، تقال أحيانا من قبيل معالجة شعور خفى بالذنب، أو لمداراة الارتباك أمام الحالة الراهنة، أو رد فعل على هجوم الكراهية القادم مع رفرفات نهش الطيور الجارحة للجميع. والشجاعة تقتضى مواجهة الجميع بالحقائق لا التخفى تحت أغطية عاطفية، أو ملابس واقية من نهش الطيور الجارحة، التى هى إن دققت ستجد وتكتشف بسهولة أنها منتهية الصلاحية.
والحقيقة أنه لا بد من تفكيك البنية التحتية التى قادتنا إلى كارثة بعد ثورة حملت كل آمالنا وأحلامنا بدولة محترمة، ننتظرها فيها السعادة.
البنية التحتية التى أقصدها تتعلق بجناحى الكارثة:
1- السلطوية الحاكمة فى كل المؤسسات التى تحول المؤسسة من دورها المحدد، المفيد إلى «تسلط» و«وصاية»، وهذا يمتد من الجيش إلى الأزهر، لا بد أن تعود هذه المؤسسات إلى حجمها، ودورها الطبيعى فى الدولة، هذه السلطوية التى تضع المؤسسة فوق المحاسبة، أو تمنحها قداسة فوق الحقوق والحريات، فإنها تضع أساسيات الإفساد والفشل كما رأينا وعشنا فى تاريخنا القريب جدا، حيث تحولت الأحلام إلى مآس عندما أصبح «السلطوية» هى أساس كل التجارب من «علمانية، ليبرالية، اشتراكية، إسلامية».. كلها أدت إلى كوارث لأنها تمتص قوة المؤسسات وحيويتها لتصبح أداة فى قبضة الحاكم يسيطر بها لكى يحكم.
2- الجناح الثانى للكارثة هى التنظيمات المعادية للدولة، والحياة الحديثة، والتى تعيش على عجز هذه الدولة السلطوية على توفير الخدمات لمواطنيها، فتتكاثر التنظيمات على هذا العجز، وعلى أوهام أنهم مندوبو مملكة الله على الأرض، وهنا يتحول تنظيم مثل الإخوان إلى قبيلة، طائفة تصبح عند وصولها إلى السلطة فوق الدولة، أو فى مهمة علوية لنشر الدين. وهذا الوعى المشطور بين المهمة الدينية، والسلطة المدنية كشف عن البنية التى كانت مختفية مع التنظيم تحت الأرض. فالعضو بالنسبة للجماعة مجرد زبون.
يمنحونه رشوة لتسهم فى منحهم رخصة الاستبداد.
المجتمع بالنسبة للإخوان ليسوا أفرادا أو مواطنين أو حتى جمهورا له احترامه باعتباره جزءا من اللعبة عندما تكون حلوة.. وإنما المجتمع عبارة عن زبائن.. وفى عقلية التجار هذه، الزبون على حق فقط لحظة الانتخابات.. أو الحشد. تأمل جيدا العلاقة بين تنظيم الإخوان والمنتمين إليه.. وانظر إلى من انفصل عن الإخوان فى مرحلة الشباب.. لا الذين انشقوا فى سنوات متأخرة ويحاولون بكل الطرق المحافظة على سحر المنشق. لا يتخلص الإخوانى بعد عمر معين من إخوانيته، لأنها تتحول إلى علاقة عائلية، والخروج عنها ليس سهلا، ويكون دائما باتجاه «إخوانية».. أكثر من الإخوان أنفسهم.. وتدور الخطابات المنشقة عن «النقاء».. الذى لم يعد موجودا والابتعاد عن أفكار حسن البنا. وهنا لن يكون مهما أساليب العقاب الجماعى، والاعتقالات العشوائية، أو إغلاق فرص الحياة على الأعضاء، وإنما التفكير كيف سيؤثر تفكيك البنية التنظيمية للجماعة على عملية إدماج جمهور الإخوان فى المجتمع؟
نقلاً عن جريدة التحرير