وائل عبد الفتاح
هذا كلام قديم عن جنازة نجيب محفوظ.
أتذكره اليوم ليس احتفاء بذكرى غياب الرجل الكبير فى الرواية، وإنما لنرى معًا كيف كانت الدولة المنتصرة عسكريًّا على جماعات الابتزاز باسم الدين خاضعة للجماعات، وابتزازها، دولة أكلتها الشيخوخة، وتخيلت أنها بآلة الأمن وحدها ستحمى الكرسى وصاحبه، لكن الدولة فى قرارة نفسها، كانت عجوزًا وعاجزة حتى أمام جماعات نكتشف اليوم ضعفها وعجزها. نعم أعيد الحكاية اليوم لنتذكر كيف كنا نعيش فى ظل حرب بين عاجزين.
سنتذكر كيف كانت الدولة المتوحشة علنًا مرعوبة من إرهاب تحت سيطرته، وكيف كانت جماعات الإرهاب رغم توبتها الخادعة تضع أقنعتها الطيبة.
لنتذكر معًا تلك اللحظات.
ربما كانت صدفة غريبة أن تتزامن جنازة نجيب محفوظ مع جنازة لاعب كرة قدم شاب (عمره 23 سنة) مات فى الملعب فى أثناء التدريبات.
كتبتُ يومها عن نجيب محفوظ الذى حلم بأن يكون نجم كرة.. خرجت جنازته رسمية باردة، بينما محمد عبد الوهاب لمس موته مشاعر ساخنة. خرجت الآلاف حزينة متحسرة على اختفاء الشباب. لكن جنازة محفوظ لخَّصت نوعا من البؤس يحتاج إلى تأمل. دولة تخاف من زرع قنابل فى الجثة. الشرطة السرية فتَّشت التابوت وقلَّبت فى الجسد المستسلم.. تبحث عن قنابل مختفية تحت الكفن. مشهد مؤلم، مستفز، لكن لم يكن ممكنًا الكلام، فنجيب محفوظ الآن تحت يد الدولة. والدولة بوليسية، والرئيس والجنرالات سيمشون فى جنازته.
لا صوت يعلو فوق صوت أجهزة الأمن. والجنازة صاحبها مستهدَف من مجانين الله الذين يذبحون ويسفكون الدماء بفتوى تافهة، عابرة، والجماهير خطر على كبار الدولة العواجيز كلهم الذين أرهقهم الحَرّ والسير أكثر من 3 دقائق.
لم يفكر واحد من الدولة التى تعانى من ضغط الإسلاميين أن التفاف الناس حول نجيب محفوظ، الأديب، المثقف، يمكن أن يكون رسالة ضد التطرف. تخفف من احتكار الرموز الدينية التى تخرج من ملاعبها التقليدية فى المسجد وتريد أن تحكم كل حياتنا.
الاحتفال الشعبى بالأديب، تحرُّر ما من سلطة الشيخ وسلطانه. كان يمكن أن تكون جنازة نجيب محفوظ «عودة الروح» لثقافة مدنية هاربة من تأميم المشايخ للمجتمع.
وبالنسبة إلى شعب يحتفى بالموت، فالاحتفال برحلة نجيب محفوظ الأخيرة فى شوارع القاهرة هو إعلان محبة لأبطال من لحم ودم، معجزتهم ليست رؤية النبى فى المنام أو إخراج العفاريت من الأجساد الملعونة أو إلقاء الحِكَم من على المنابر، وسحرهم ليس بتوكيل من الله وقداسة تسطو على النصوص الدينية وتسيطر على عقول وأرواح الجموع الغافلة.
نجيب محفوظ مثل أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وطه حسين أصحاب «معجزات» بشرية. خروج الناس لوداعهم هو احتفال بقدرة الإنسان على الخلق والإبداع.
أم كلثوم امرأة فقيرة. وعبد الحليم حافظ مغنٍّ بقدرات صوت ضعيفة وقوة روح تتغلب على المرض. وطه حسين مفكر خرجت جنازته من جامعة القاهرة.. البيت الذى اكتشف فيه الطريق إلى العلم والفلسفة.
كل منهم حكاية كبيرة تحبها أو تختلف معها.. لكنها حكاية كبيرة عن الثقافة.. والفن.. والفلسفة.
نجيب محفوظ حُرِم وحرَمَنا معه من لحظة مهمة. وجنازته كشفت أن الدولة خائفة. مرتبكة. لا تعرف بوصلتها. وليست هناك قوى أخرى تستطيع أن توجهها وتقترح عليها أو تجبرها على أن تترك الأمر لآخرين لا تهمهم المراسم ولا تخيفهم تفجير الجنازات العسكرية.
لماذا لم تخرج جنازة نجيب محفوظ من المقهى..؟! أو من مقر ندوته الأسبوعية..؟! ولماذا اقتصرت الجنازة فى «الحسين» على الطقوس الدينية..؟! أليس فى «الحسين» حياة وناس وعالم كان محفوظ مغرَمًا به وكان يحب أن يكون مشواره الأخير كما كان مشواره الأول..؟!
لماذا اقتصر الاحتفال بنجيب محفوظ على المارشات العسكرية والقرآن..؟! لماذا ودَّعناه كما نودِّع شخصا عاديا لا ميزة له سوى الحصول على قلادة النيل من رئيس الجمهورية..؟!
لماذا لم تستطع الدولة ولا المجتمع تجديد الحياة بقوة الموت..؟!
عندما رفضت حكومة إيطاليا ترتيب جنازة رسمية للشاعر المتمرد أونجاريتى خرجت جنازته إعلانا للتمرد والمروق على الحكومة والدولة.. الموت جدَّد روح الحياة. وهذا ما لم يحدث مع نجيب محفوظ.
بالعكس أرادت كل القوى المسيطرة إعلان جبروتها بمصالحة مع محفوظ. الجنرالات الذين يكرههم، والمشايخ الذين لعبوا فى دماغ مراهق جاهل دفعوه إلى غرس سكين فى رقبة الرجل الذى يسير بجوار الحائط.
الخلاصة: لم نستطع الاحتفال بنجيب محفوظ لأن عجزنا أكبر بكثير مما نتخيل.
كتبتُ هذا وقت الموت والآن يعود نجيب محفوظ إلى جبهة القتال دفاعا عن المدينة، هو حارس من حراسها، ويبدو بعد ١٠٠ سنة من مولده متقدما فى هجوم بدائى أصفر يسقِط لعناته على المدينة والحياة الحديثة كلها.
نقلاً عن "التحرير"