وائل عبد الفتاح
كان الإخوان يبحثون عن نخنوخ (هم).
وكان البلتاجى يرشح نفسه بقوة.
ولأن الوزير محمد إبراهيم واقعى جدا فإنه تحدث ببساطة، كأنه أمر واقع عن رسائل نخنوخ التى يطلب فيها لقاء البلتاجى فى تلميحات جنسية لا تخفى عمن يعرفون تاريخ القهر الجنسى فى السجن، التى تقع بالمناسبة فى دائرة مسؤوليته.
محمد إبراهيم ابن قوانين الخضوع للقوة ولهذا خدم الإخوان، وأجهزته قتلت وخطفت وعذَّبت أعداء الإخوان، ثم عندما ظهر أن دولة الإخوان ذاهبة، ابتعد وسار فى اتجاه الأقوى.
مبدأ «الخضوع للأقوى» أحد أعمدة الانحطاط المباركى الأصيلة، والتى تحول معها أداء الشرطة تماما إلى «حماية القوى، ويجسده الحاكم بقهر الضعيف، وهو بالطبع المواطن»، وهنا لا يعرف إبراهيم ولا غيره من أبناء هذه التربية حقوق الفرد العادى إلا بمنطق «الوردة فى عروة الجاكتة» فهم يرون الأمن يتحقق بالهيبة، والتخويف، وإثارة الرعب.
إنها السلطة المنفوخة التى تقدم الأمن مقابل الكرامة، ولا تتذكر القانون إلا حين تلفّه وتديره لتلفّق به أو تستّف به أوراقها لتهرب من المحاسبة.
والإخوان عثروا على محمد إبراهيم بعد تكاسل أحمد جمال الدين فى خدمتهم، لكنهم لم يعثروا على نخنوخ، وإن كان البلتاجى لعب كل الألعاب ليكون نخنوخا ولم ينجح. نخنوخ قال فى التحقيقات إنه «رئيس جمهورية» وكان يعنيها.. هو ابن عصر تقسيم الدولة إلى «جمهوريات» أو إقطاعيات يدير كل جمهورية «كبير» موثوق به، يُترك له السلطة والثروة والسلاح ليسيطر على «جمهوريته» ويضمن الولاء للريس الكبير.
نخنوخ بالتأكيد كان سيصبح وزيرا للداخلية أو للاستثمار، إذا ما عاد مبارك أو عائلته أو المافيا المولودة برعايته. نخنوخ أمير، كما سمَّته الصحافة، لكنها أخطأت حينما استسهلت وحصرت إمارته فى البلطجة.. وهو لا يفصل بين «المافيا» و«الدولة» كلاهما بالنسبة إليه كيان واحد يحقق الاستقرار للبلد، ويمنحه فرصة تضخيم الثروة واتساع القصور وملاعب المتع الفاخرة. إنه «مثقف عضوى» بمعنى من المعانى المقلوبة، فهو مدافع عن مصلحة «البلد» كما رآها الريس، وكان يقصد فى تصريحاته الرئيس محمد حسنى مبارك، وهو صادق حين يقول إنه كان «يخدم البلد ويراعى مصالح المسؤولين الكبار الذين كانوا يحركون الدولة كما يشاؤون».
هو ذراع السلطة، وكان من الممكن أن يتحول إلى عقلها إذا دارت الدائرة وأراد مركز (الجمهوريات، الإقطاعيات) مكافأة رجاله المخلصين أو تغيير مسمياتهم، ساعتها لن يكون نخنوخ أميرا للبلطجة، لكنه «بطل.. شعبى» له بطولات فى حماية البلاد من «العناصر المندسة» و«العملاء» بداية من السيطرة على الانتخابات وإلى السيطرة على استقلال «الجمهورية، الإقطاعية..» فى مواجهة الخطر القادم.
وهذا ما جعل نخنوخ يعتبر أن له ثأرا مع الإخوان، وأن القبض عليه مؤامرة إخوانية، بينما كان يؤدى مهمته للحفاظ على أركان الدولة حتى يعود أصحابها.
وعى نخنوخ ليس عابرا، ولا خرافيا، إنه الوعى السرى الذى حُكمت به مصر سنوات طويلة، واختير أهل الثقة من نوعية نخنوخ للسيطرة المحلية، بعيدا عن القانون وصداع الحقوق ومستلزمات الدولة الحديثة. حداثة نخنوخ فى المتع «خمر وحشيش» والصداقات مع النجوم، والقدرات الواصلة لحل أى مشكلة والوقوف أمام سلطات بيروقراطية تطبق قوانينها على المواطنين لكنها أمام «رئيس جمهورية» تتحول إلى خدم وحراس. وقف نخنوخ أمام أحراز القضية فخورا مبتسما، ابتسامة أكثر تماسكا من ابتسامة البلتاجى، هو محارب فى استراحة عابرة، يتوعد ويروى تفاصيل سيطرته على «جمهوريته» ويهدد باعترافات مصورة تورط أسماء خصّ منهم بالذكر، البلتاجى.
نخنوخ يتجاوز إحساس المتهم إلى «المقاوم..» لسلطة تجلس الآن على مقاعد كان يعمل فى حماها ولاستقرارها. هو ابن نظام بنى شبكات من سلطة موازية أقرب إلى عصابات سرية تعبر عن وجود قوى موازية لسلطة الدولة. قوى مالية وعائلية وربما طائفية وسياسية، تحاول حسم الحروب الصغيرة، وقطع الطريق على من يهدد مصالحها عبر تجنيد عناصر مدربة فى عصابات محترفة. كان الشعور بوجود هذه العصابات أحيانا أخطر من وجودها فعلا، لأنها ربما تكون فى لحظة من اللحظات عنصرا حاسما فى حسم معركة سياسية أو قضائية، يتعطل فيها القانون وينتصر فيها الأقوى أو الأكثر قدرة على الإيحاء بأنه الأقوى.
لم تُهزم هذه السلطة الموازية عندما سقط مبارك كما انهار حزبه، لكنها استمرت وشكَّلت الحرس الأخير للنظام. هؤلاء ليسوا بطلجية بالمعنى التقليدى، ولا مجرمين، إنهم حكام الدولة السرِّيُّون. وهذا ما أراد أن يكونه البلتاجى وفشل.
نقلاً عن "التحرير"