وائل عبد الفتاح
نعم إنه باب الموتى.
موتى يحاربون الأحياء.. الحالمين ببلد يجدون فيه السعادة.
كلهم ينتمون إلى أنظمة ميّتة، لا فرق بين الإخوانى ساكن قصر الرئاسة، مندوبًا لجماعته، وبين مندوب الإمبراطورية الأمريكية التى أثبتت فشلها فى مناطق، مثل باكستان والعراق.. تقع أحلام شعوبها الآن فى بلاد سعيدة تحت حكم ما يمكن تسميته «الديمقراطية المجرمة».
والتعبير أستعيره من كتاب أستمتع بقراءته الآن للفيلسوف الفرنسى جاك رانسيير، التقطه المترجم الذكى أحمد حسان بوعى وحساسية سياسية وثقافية، وصدر فى القاهرة عن «دار التنوير» تحت عنوان «.. كراهية الديمقراطية».
الديمقراطية المجرمة هى المفروضة بقوة السلاح، وهذا هو ما يفسّر بالنسبة إلىّ ضراوة الديمقراطية التى تحكمنا بها شركة الحكم بين الإخوان والجيش برعاية أمريكية.
إنها تلك الديمقراطية التى يتصوّرها الراعى الأمريكى منحًا تسقط من أعلى، على القدر الذى نستحقه كمتسوّلى «حريات» أو «شعوب بدائية» ترضى بما يلقيه الأمريكى الطيب ومن يدخلهم فى مداراته إلى هذا الشعب.
إنها الأفكار الميّتة التى تفرض بقوة السلاح عنصرية «إمبراطورية»، التى ترى أن هذه هى الديمقراطية التى نستحق.. وتفرض أنظمة استبداد ووصاية لا تعرف من الديمقراطية سوى صناديق الاقتراع.. بل إنها تتعامل بما يمس هوس الصندوق لتستبدل به ديمقراطية حقيقة تعنى أول ما تعنى تحرير المجال العام أو كما قال رانسيير فى كتابه «كراهية الديمقراطية»، «ليست الديمقراطية شكلًا للحكم، ولا شكلًا للمجتمع.. وتتطلب ممارستها أن تتبلور، خلال الصراع من أجل تحرير المجال العام، مؤسسات مستقلة، وقوانين تنظّم عملها، وثقافة يتصرّف وفقها الأفراد، ولا يمكن فى غياب كل هذا تلخيصها فى صندوق الاقتراع..».
هنا لا بد من كشف أن تلخيص الديمقراطية فى الصندوق هو مجرد إيمان زائف بالديمقراطية التى لا تهتم بمَن يحكم، بل بمدى اتساع المجال الذى تتحرّك فيه مؤسسات المجتمع وتتحقق فيه الحريات.
بمعنى آخر، الديمقراطية ليست شكلًا للحكم.. لكنها الأسس التى توضع لكى تفقد الدولة سيطرتها على المجال العام.. أى أنها شكل من أشكال العقد الاجتماعى.. أو قانون العلاقة بين الدولة والمجتمع.. لا تتيح للدولة ابتلاع المجتمع ولا الاستحواذ عليه. وهنا يمكن مثلًا أن تأتى الصناديق برئيس مجنون مثل بوش الصغير أو بساحر الأقليات أوباما، الرئيس هنا لا يستطيع تغيير علاقة الدولة بالمجتمع.. ولا اللعب لتضييق المجال العام الذى تنمو فيه مؤسسات المجتمع.
المشكلة إذن مع المرسى وشركة الحكم أنها تعيد إنتاج الاستبداد بالصناديق، بعدما فقدت موجات الاستبداد العسكرى شرعيات ثورات التحرر أو الانتصارات العسكرية.
أمريكا تتصور أن «الديمقراطية» هى ضمن حزمة المعونة العسكرية والمالية لأنظمة تضمن دورانها فى فلك الرعاية.. وتتصور هنا أن هذا ما نستحقه من ديمقراطية، وهذه نظرة متعالية، لا ترى ما أحدثته الثورة من تغيير، ومن صعود قوة المجتمع لتوسع مساحتها ضد منطق شركة الحكم التى ترعاها أمريكا.
نظرة أمريكا ميّتة مثل شركة الحكم كلها.
وهذه ضراوة المعركة.. إن الثورة تحارب كل هؤلاء الموتى.. المنتمين إلى عالم انقرض، لكنه يفرض حضوره بقوة السلاح.. والمال.
كيرى فى زيارته الأخيرة، ورغم وجهه الطيب، أراد بيع واقعية هى على أقل تقدير «منحطّة»: إذا لم يتم قبول شروط صندوق النقد فمصر تسير نحو الانهيار.
والمطالبة بدخول المعارضة انتخابات مرسى، هى البحث عن شريك يقوّى قلب الإخوان ويتحمّل معهم نتيجة سياسات الصندوق.
يعرف كيرى أن مصر تحتاج ١٦٠ مليار دولار.. لكنه يضع الـ٤،٨ مليار دولار كجسر الإنقاذ.. ويطالب المعارضة بأن يكونوا واقعيين ويساعدون المرسى على اتخاذ قرارات سريعة.
كيرى يريد مصر فى الصندوق.. والمرسى يريدها فى الصندوق، صندوق كيرى يريد ربط مصر بماكينة أمريكا، والمرسى يريدها أن يضعها كلها تحت سيطرة الجماعة.
الموتى يريدون إدخال الأحياء الصندوق.. بعد أن منحتنا الثورة أملًا فى حياة لا نعيش فيها على المعونات.. ولا نحبس الديمقراطية فى الصندوق.
نقلاً عن جريدة "الشروق"