وائل عبد الفتاح
هل المرسى هو المهم؟
يفكر البعض من هذه الزاوية الضيقة جدا، أن ما يحدث فى مصر الآن هو ثورة على المرسى، أو رغبة فى إسقاطه، أو هز كرسيه الصاعد إليه عبر الصناديق. هذه نظرة ضيقة قلت ذلك، وأرى أن ما يحدث فى بورسعيد إشارة مجددة إلى أن ما يحدث فى مصر لا يمكن توصيفه على أساس: نظام ومعارضة.. أو رئيس ومصارعة على المقعد العالى.
الثورة ليست رحلة ترفيهية إلى الميادين، والعودة بعد الاحتفال بركوب رئيس وصل إلى مرحلة المومياء. البعض فهمها كذلك وتعامل على أن الثورة هى فاصل عنيف بين حياة مستقرة هادئة على مزاج دولة يحكمها القصر العالى بما يوافق هواه، ويعيش الناس فيها كقطيع يدورون كل يوم فى طاحونة تدر ما يوفر لهم حياة على حواف التمنى بالبقاء، مجرد البقاء فى دائرة الستر.
هذه هى الحدود الدنيا التى توفرها دولة القصر العالى، التى تم تصميمها من أيام الفراعنة، وأجريت عليها تعديلات لم تمس التصميم الأساسى الذى يجعل من السهل أن يدخل «الإخوانى» المضاد للدولة الحديثة، التصميم ويشعر بسعادة، ويلملم أطلاله ويريد أن يقدمه على أنه الدولة، والأهم يتصور أنه قادر على الحكم وفق قوانين تركها مبارك المومياء فى دولابه قبل الرحيل إلى مصيره التعس.
ليست صدفة أن المرسى والجماعة التى يمثلها وكل من تحالفوا معه على أساس أنه «رأس حربة» ما يسمونه المشروع الإسلامى، وهو مشروع غائم، يداعب مشاعر النرجسية المهزومة، ولا يقدم سوى هذه الخيالات عن عودة الخلافة وفتح العالم بإمبراطورية إسلامية تعيد المجد الغابر.
هى أوهام موجودة فى كل المجتمعات، فهناك من يحلم بالإمبراطورية الرومانية أو من يريد أن يكون فارسا صليبيا، لكن الأوهام تكبر كلما تدنت السياسة إلى حدود يمكن التعامل فيها مع هذه الهلاوس على أنها واقع.
لم يشعر الإخوانى بالغربة فى أطلال نظام تركه، لأنه يريد الدولة التسلطية، نفسها، دولة الوصاية التى تتعامل مع الشعب على أنهم أطفال تنقصهم التربية، هى دولة القصر العالى وقد أعيد الطلاء فقط وسط التكبيرات بالانتصار، وهو انتصار يخص أصحابه فقط، أما باقى الشعب الذى خرج من القمقم ويريد دولة تحقق له السعادة لا تعيد تربيته أو تعيده مرة أخرى إلى موضع القطيع.
هذا ما يحدث وهو أكبر من فكرة صراع بين الرئاسة والمعارضة أو تنافس بين الجماعة والجبهة. إنه وعى بأن إعادة بناء الدولة بنفس الطريقة، سيؤدى إلى كارثة.
بهذا الوعى تستمر الثورة، بأشكال مبتكرة، وعبر قطاعات ليس وعيها بالضرورة سياسيا، لكنه دفاع عن حلم الخروج من حالة القطيع- المنسى- الضحية - المهدورة إنسانيته إلى حالة أخرى.
وفى المقابل ما زالت هناك قطاعات تريد الدولة ولو جثة أو حطاما، تريدها بطريقتها القديمة، لأن بؤسها الإنسانى وصل إلى مرحلة تجاوزت حالات السود الذين دافعوا عن استمرار العبودية فى أمريكا قبل تحرير العبيد على يد لينكولن.
الثورة ليست جولة فى مول سياسى، ولا نهاية فيلم مثير عاطفيا، وهذا هو الخطير أو المرعب، لأن الذين يجمعون ركام الدولة القديمة ويسعون إلى ترميمها وإعادة بيعها على أنها جنة الأحلام فاشلون وبائسون، بالضبط مثل الجمهور الذى يرى أن المومياء مبارك كان أفضل من هذا الوضع. كلاهما فى وضع إنسانى تعس إلى درجة صادمة لمن ما زال لديه وعى ومشاعر تعمل فى توافق مع مصلحة الحياة فى بلد محترم تعمل دولته لتصنع السعادة، لا لتسكن هرم السلطة وتتحكم من خلاله فى شعب خرج من القمقم ولن يعود، ولن ينجح معه رئيس.. يتصور أن الحل فى إصلاح القمقم وترميمه.
لهذا.. المرسى ليس هو الحكاية...
إنها مجرد بائع جثة اسمها الدولة القديمة.
ومرمم قمقم لن يعود الشعب إليه.
ومندوب جماعة تسعى إلى وراثة مومياء.
المرسى عابر.. وجماعته عابرة.
نقلاً عن جريدة "التحرير"