وائل عبد الفتاح
هل تريدون إسقاط رئيس منتخب؟
أعيد السؤال بطرق كثيرة خلال أيام التحضير لـ25 يناير الثانية. قيلت على سبيل الاستضعاف من الإخوان: كيف تسقطون مَن جاء عبر الصناديق؟ وقيلت من الفرق النائمة وحكماء التخفى خلف قناع الموضوعية: لا نريد إسقاط الرئيس.. فهذا يعنى أننا نسقط الديمقراطية. وقيلت من الوحوش المكبوتة فى الجماعة الإسلامية: إذا أسقطتم مرسى.. فلا لغة إلا السلاح.. وانتظروا الثورة الإسلامية.
.. إنها لحظة فارقة فعلا.
يتكشف فيها خطاب كامل مارَس كل أنواع الإرهاب ليصل إلى السلطة باسم «إعادة مجد الأمة» أو «إحياء الخلافة» أو «حكم الشريعة» كلها عناوين تناسب موضة العصر الذى تعيش فيه هذه التيارات. كلها تيارات تبدأ إرهابية.. لا تعيش دون استخدام العنف بداية من الحرق والتخريب مرورا بالجنازير وحتى القنابل والأسلحة الآلية.. لا وجود لهذه التنظيمات إلا بالعنف الذى يتصورون أنه مقدس. الخطاب الآن عارٍ تماما من كل قداسته مسلوب من سحر الدفاع عن الدين.. ولهذا يتمسح فى الديمقراطية والصناديق.. يخفى فاشيته وطائفيته.. تحت ملامح المظلوم الذى تريد الثورة خطف غنيمة الصندوق منه.
لا يفهم كل هؤلاء أن الصندوق ليس بندقية تقتل بها عدوك.. وأنه يمكن استخدام الديمقراطية دون الفكر والقيم التى تحملها.. يعنى كيف تكون رئيسا منتخبا وتتصرف كأنك ديكتاتور لا يُرَد له قانون ولا كلمة؟
كيف تؤتمن على بلد ومجتمع وتفرض عليه دستورا طائفيا يحكم بتقاليد دولة الفقيه؟ كيف تحلف يمين الحفاظ على مؤسسات دولة ثم تدمرها لأنها لا تسمح لك باحتلالها وفرض سيطرتك عليها؟ كيف تنتخب بالديمقراطية وتدمرها بعد وصولك بدقائق.. أو بلحظات؟ كيف يختارك 51٪ من الذين ذهبوا إلى الانتخابات ثم تلحس كل وعودك وشعاراتك.. وتفتح القصر لجماعتك السرية ولأشخاص يتحكمون فيك من خلف الكواليس ولم ينتخبهم أحد؟
المرسى أسقط نفسه منذ اللحظة الأولى التى قرر فيها أن الانتخاب يعنى تفويض ملكية للدولة.
وهذه خيانة من النوع الكبير للصندوق، الذى يعنى أنه عقد بينك وبين الدولة والمجتمع.. له شروط وقواعد وأحكام وسياقات.. وهذا ما لم يفهمه تيار كامل تصور أنها «الفرصة الأخيرة» لاقتناص ما فشل فيه بالسلاح والعنف والإرهاب الدموى. الإرهاب باسم الديمقراطية.. عند المرسى وكل سلالة جماعات الإرهاب باسم الدين...هو المحطة الأخيرة لهزيمتهم على أرض الواقع وإفلاس خطابهم بعد انهيار صورة الضحية المطاردة من سلطة الاستبداد الكاكى. هذه التيارات يعشش الإرهاب فى عقلها ووعيها ووجدانها بدرجات وإن تغيرت نبرة الخطاب المعلن.. وهذا ما لا يجعلهم يفهمون التغير الذى حدث فى المجتمع.. ولا معنى لوجود «قوة حية» ترفض السلطوية أيا كان مصدرها.. والوصاية أيا من كان صاحبها جنرالا أو شيخا. هذه التيارات الباحثة عن سلطة على المجتمع تخيلت أنها عندما توجه نداء باسم الله.. فإن كل المؤمنين سيسيرون خلفهم.. وهنا صدمتهم.. فالوعى الذى عرفهم فى السلطة اكتشف أن لهم دينهم وللشعب دينه.. إنهم يتاجرون بالدين ويلعبون بالعواطف المقدسة.. ولا شىء خلف هذه الألعاب والتجارة إلا نظام مستبد جديد.. لا فرق بينه وبين نظام العسكر إلا فى الزمن.. العسكر يعيشون زمن المماليك حيث الغالب مسيطر.. والمشايخ يريدون عودة السلطنة العثمانية حيث الشعب قطيع السلطان. وكما يعظم العسكر من شأن مؤسسة السلاح.. فإن المرسى ومن يسير على دربه يحولون التنظيم أو الجماعة إلى صنم يريدون للشعب فى مصر أن يعبده.. وأن يسير خلفه ولو ارتكب الخطايا والكوارث كما حدث من «الرئيس المنتخب» فى أقل من 200 يوم. الثورة تعلن اليوم استمرار انفصالها عن عبادة تنظيمات الإرهاب.. تعلن أيضا أنها تريد دولة حديثة.. بنت عصرها.. تريد رئيسا يدرك أنه ليس فوق الدولة.. ودولة تخدم مؤسساتها المواطنين أو ساكنى هذا البلد.. وليس الحاكم وقبيلته.
وهذا ما ستسقطه الثورة.. الثورة هى عالم جديد.. وهذا ما يجعلها تتجاوز مرسى بلحظته العابرة كما تجاوزت المجلس العسكرى العابر. وعندما يرفع شعار «... يسقط النظام»، فإنه ليس المقصود هنا مرسى وجماعته الساكنة خياله وقصر الرئاسة.. مرسى ليس «النظام»، لكنه صدفة كما كان مبارك صدفة، وصلت إلى مقعد الرئاسة وفق تركيبة نظام ما بعد ١٩٥٢، حيث يختار الكهنة فى الغرفة المغلقة مسارا ليوصل شخصا بعينه.. فعلوا ذلك عبر هيئة التحرير ومجلس قيادة الثورة ثم عبر الاستفتاء وحتى الانتخاب الحر المباشر.. كلها ظلت أشكالا تحت سيطرة الكهنة، ويحكمهم فى المسار الذى يصل بمشهد الختام سواء كان تصعيدا أو استفتاء أو انتخابات... كل الطرق تؤدى إلى «دولة الكهنة». ولم يكن المرسى ليصل إلى الرئاسة لو كان المسار خرج من قبضة «الكهنة» أصحاب البدلة الكاكى وأدخلوا به الثورة فى «عملية تحت السيطرة» بداية من استفتاء مارس عام 2011 الملعون وحتى استفتاء ديسمبر 2012 الأكثر لعنة. الكهنة الكاكى أدخلوا إلى غرفتهم السوداء عدوهم القديم ليرمموا ما دمره مبارك وولده، وكانت المغامرة/المؤامرة التى أشركت الذئب فى إدارة توزيع الغنائم، فدفعت الثورة دفعا باسم العقل والحكمة والمصالح العليا للبلاد والاستقرار وعجلة الإنتاج.. إلى لعنة العملية التى تعيد إنتاج النظام المتحوّل فى صورة جديدة. هذه هى الثورة، أما حكمتكم أيّها الحكماء الواقفون على الحياد، المستمتعون بأوهامكم عن نقد كل الأطراف، فهذه ليست إلا ممسحة أنيقة لنفايات النظام المتحول.
نقلاً عن جريدة "التحرير"