وائل عبد الفتاح
المشكلة فى الإخوان ومَن حالفهم من الإخوان فى التربية.
تربية الحضانات التى تصور لهم أنهم «الفرقة الناجية» و«النخبة المختارة» بينما مَن هم خارج الجماعة هم المذنبون.
ولأن الفاضل لا بد أن يعيد تربية المذنب، فهنا يكمن سر الفاشية التى تحوِّل الدولة إلى مصنع كبير لإنتاج بشر على الكتالوج.
وفى هذا المفهوم سيحوِّل العائش فى الحضانات كل حوار إلى نفس المنطقة: يعجبك البنات اللى لابسه بنطلون ضيق؟ يعجبك الولاد اللى مطوّلين شعرهم؟
كل قضية عامة أو كبيرة تنتهى عند هذه النقطة التى يتصورون أنها نقطة الضعف التى لا بد أن يشعر المجتمع عندها بالعار.
الفاشى إذن طيب يتصور أن معه وحده مقاسات الحياة الصالحة.
ويتصور أن تصوراته للتدين هى الدين، ومهما بلغ تسامحه فما دامت فكرة أن الحقيقة المطلقة معه وأن مهمته بناء المدينة الفاضلة فستظهر شراسته وسيعتبر كل بحث عن حريته عدوًا ويجب التخلص منه.
وهذا جانب قد يعتبره البعض ترفًا، رغم أن الحرية الشخصية هى أساس الدولة العصرية الحديثة، لكن خطاب الإخوان والسلفيين استطاع فرض الشعور بالذنب وتصور أن الحرية تعنى الابتذال، فتكلّمه عن حرية الفرد، يقول لك: يعنى تريد جنسًا جماعيا؟! تدافع عن احترام الخصوصية، فيقول لك: يعنى عاوز المثليين يتجوزوا من بعض؟
هذه العقلية مريضة من طول إقامتها فى الحضانات وفشلها فى التعايش خارج العالم الافتراضى المغلق عليهم، يتصورون أن كتالوج حياتهم سيقودهم إلى الجنة ولا يعترفون أن هناك طرقا أخرى للجنة.
هذه هى الفاشية بكامل مواصفاتها التى تجعل مثل هذه الأسئلة مطروحة: هل تدافعون عن حريتكم فى الملابس وتتركون حرية الوطن؟ هل من أجل أسلوب الحياة.. ستخرج فى مظاهرة؟ هذه أسئلة/اتهامات، تضع الحرية فى ثنائيات تختصرها فى صراع صغير يختصر أقصر الطرق إلى الفاشية. الطريق المختصر للفاشية يبدأ من هنا: التضاد بين مساحتك ومساحات الحرية العامة.
كيف تنادى بحريتك قبل أن يتحرر الوطن؟
إنها الرفاهية مرة أخرى.
رفاهية لا تراها الأنظمة الفاشية كذلك.
فهى تعرف طريقها المختصر.
تعرف أن أوّله الوصول إلى الحرية الشخصية.. إلى اتهامك بالانحراف الأخلاقى.. بالتفتيش فى تفاصيلك وإعادة تربيتك لتكون مواطنا صالحا.
وهنا لا فرق بين فاشية وطنية أو دينية.
كلتاهما تبدأ بوضع أصابعها فى مساحتك الشخصية.
فى النكتة سأَلَتْ المذيعة: مصر بالنسبة لك إيه؟
قال لها المسطول الأول:.. مصر هىّ أمى.
فاستدارت وسألت زميله: وانت.. مصر بالنسبة لك إيه؟ فرد بسرعة: «أنا مابتكلمش عن أم واحد صاحبى»
هذه أقصى سخرية من الوطنية القديمة التى تعتبر أن الوطن هو الأم.
والشعب عائلة واحدة.
وهى وطنية تُغوى الحالمين والرومانسيين والمثاليين.. لكنها فى الحقيقة وطنية موروثة من الأنظمة الفاشية تربى المواطن على أنه مجرد رقم فى عائلة كبيرة. وطنية تقوم على التعصب الأعمى وعلى فكرة القطيع الذى لا يفكر... الفرد يلغى اختلافه ويحتمى وسط القطيع وينتمى إليهم. هكذا كان يمكن للسادات أن يعتبر نفسه مصر، وأى نقد له هو «إساءة إلى مصر». وبنفس المنطق فإن المنتمين إلى وطنية القطيع تنتابهم هستيريا جماعية عندما يعرّى أى أحد الفضائح التى يتواطأ الجميع للتستر على وجودها. بهذه الثقافة. ووطنية تربت على يد العسكر. وهدير القطيع... نتصور أحيانا أننا فى المدينة الفاضلة كلما ارتكبت السلطة جرائم ضد الحرية الشخصية أو الاختلاف فى التفكير.
عقلية السلطة ترى فى الشعب قطيعا واحدا.. وعلبا متشابهة تُرَصّ على رفوف فتبدو تشابهاتها أقوى ومصدر فخر.. ومن هنا فإن الضباط أيام مبارك (المعادى للتنظيمات الإسلامية) كانوا يقيمون حملات كل رمضان للقبض على المجاهرين بالإفطار.
الضباط يريدون توصيل رسالة عليا بأنهم يمثلون دولة إسلامية وينافسون بذلك الإخوان المسلمين ومن ينازعهم فى هذه الصورة لدى الناس.
إنها رغبة الدولة الشمولية فى أن تكون ليبرالية (توزع منح الديمقراطية على شعبها الطيب المسكين) واشتراكية (لا تغفل عينها عن أى محتاج من طبقات محدودى الدخل) وقومية (تلعب الدور المصرى فى أمة العروبة.. ليس المهم ماذا تلعب المهم أنها تلعب)... دولة كل شىء، تجمع كل المتناقضات بل إنها تخترع المعارضة ولا تكتفى بتشكيل الحكومة فقط.
فى نفس الوقت فإن الضابط حينما يلقى القبض على المفطر يوقظ قانونًا قديما ومهجورا أُقرّ فى عصر الملك فؤاد (الثلاثينات) عندما كان يريد أن يكون خليفة المسلمين... وفى نفس الوقت يخرج شحناته المكبوتة فى فرض موديل أخلاقى كما هى عادة خريجى الثقافة المحافظة.
فالضباط الذين يحرسون الملاهى الليلية يتحولون فى رمضان إلى حراس العقيدة والوطن معا.
هذه الحراسة التى تلغى تقريبا الحرية الشخصية.
وتخنق الاختلاف.. تصب الجميع فى قالب واحد وتقصقص الريش الخارج عن القالب.
نقلاً عن جريدة " الوطن " .