وائل عبد الفتاح
«الخلافة تاج الفروض»
شعار مكتوب على أحد كبارى القاهرة.
كُتب غالبًا فى واحدة من استعراضات قندهار التى يتعامل فيها فصيل إسلامى على أنه فى عرض عسكرى قبل الغزوة.
الشعار لا يخص فصيلًا معروفًا، لكنه حزب سياسى يتَّخذ من تحقيق الخلافة شعاره الأول، ويراها تاج الفروض.. ليس أقل.
هذه إذن أشباح معركة قديمة عمرها يقترب الآن من ١٠٠ سنة.. حين قرر شاب اسمه على عبد الرازق البحث فى علاقة الإسلام بالحكم، وكان كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، الذى أنهى حلم ملك جبار هو أحمد فؤاد.. فى وراثة الخلافة العثمانية تحت شعار أن الخلافة هى سادس فروض الإسلام وأنه المكلَّف بها.
حدث هذا سنة 1925 وكان شرارة أول صدام بين رغبات السلطة وكاتب قرر أن يكتب عن موضوع مثير وهو: الخلافة الإسلامية.
هل الإسلام دين ودولة؟!
هل الخلافة هى الفرض السادس على المسلمين؟!
هل يعترف الإسلام بحكم الفقهاء أو وكلاء الله على الأرض..؟!
الأسئلة كانت حارقة وقتها.
وعلى عبد الرازق الشيخ الأزهرى.. تقمَّص روح مغامر.. عنيد.. واقتحم قلب المعركة.
وكان المناخ مناسبًا.
فى نفس الوقت الذى انفجرت فيه معركة «الإسلام وأصول الحكم».
ناقش مجلس النواب المصرى الطابع الدينى لنظام الأوقاف.. وطالب عدة نواب بإلغائه نهائيًّا، كما تقدَّم النواب باقتراح لإلغاء منصب المفتى، كما تخلَّى طلاب دار العلوم عن العمامة وارتدوا بدلًا منها الزى الأوروبى و«الطربوش».
وبعد شهور قليلة من ضجة على عبد الرازق.. تفجَّرت قنبلة أخرى مع كتاب طه حسين «الشعر الجاهلى».. وكلاهما معركة دارت حول «كتاب)» أى منطقة التصادم فى ثقافتنا التى تمنح قدسية للكتابة ولا تعطى شرعية سوى للكتب التى تعيد إنتاج القيم المتوارثة.
كتاب على عبد الرازق اصطدم بالغطاء الدينى الذى يحمى السلطان نفسه ليحوّل معارضته إلى خروج عن الدين. كانت فكرة الخلافة تتهاوى تحت الضربات القوية لثورة أتاتورك فى تركيا «1924». والزعيم التركى نفسه أصبح بطلًا مثاليًّا لشباب رأى فيه تجسيد حلم الخروج من نفق الرجل العثمانى المريض.. هذا قبل أن نكتشف بعد ربع قرن أن رجل الأحلام لم يكن سوى ديكتاتور بديل يريد الحكم والتغيير بقرارات فوقية..
انتقلت معركة على عبد الرازق من النخبة لتصبح قضية رأى عام.. بعد ضجة من الأزهريين ممثلى الثقافة التقليدية.
اللافت هنا أن على عبد الرازق «وكذلك طه حسين».. «أزهرى سابق» أى أنه متمرد على الحدود التى ضاقت فى رمز المؤسسات القديمة.
لكن الضجة كان يحركها من الأساس نظام حكم الملك فؤاد الذى جعله الاحتلال الإنجليزى يحلم بالخلافة الإسلامية التى شهدت فراغًا لأول مرة بعد 1000 عام حين ألغت ثورة كمال أتاتورك «الخلافة العثمانية» فى عام 1924.
كتاب على عبد الرازق أثار الملك فؤاد، لأنه ينفى مبدأ وجود الخلافة فى تاريخ الإسلام بينما الملك يقيم مؤتمرًا إسلاميًّا عالميًّا للخلافة ويصدر مجلة ويكوِّن خلايا شعبية فى الريف المصرى لتنظيم هذه الدعوة، بل ويلغى دستور 1923 الذى أنتجته ثورة 1919 وينقض على أغلبية الوفد فى برلمان 1925 ليشكل حكومة ائتلافية «من حزب الوفد وحزب الأحرار الدستوريين» برئاسة زيور باشا.
الشيخ الشاب لم يكتفِ بأداء وظيفة القضاء فى المحكمة الشرعية بالمنصورة.. لكنه حاول تقديم «اجتهاد مشروع» كما كان يظن.. ولكنه أقلق الملك وأذنابه: «لأن الكتاب فيه حملة هائلة على الملوك، وفيه تحطيم شامل لحلم الخلافة البراق»، وأقلق رجال الدين: «لأنهم رأوا فى هذا المنطق ما يزعزع سلطاتهم، ويعطل مدافعهم فى الاتجار بالدين، ويكشف عن حقيقة هذه العمائم الضخمة التى لا ترتفع إلا لتستر وراءها الظلم والاستبداد.. وهناك أيضًا الرجعيون بتفكيرهم والذين يتملكون مشاعر الجماهير ولو بمجاراة الجهل والظلم..!».
هؤلاء هم خصوم عبد الرازق، كما وصفهم أحمد بهاء الدين فى «أيام لها تاريخ»، والذين حاولوا الرد بقوة على اجتهادات الشيخ، ليس على أنها رأى يضاف إلى حصيلة «الفكر الإسلامى»، بل باعتبارها شطحات تحيد عما استقروا على معرفته..
قائع محاكمة على عبد الرازق تمت بإيحاء ملكى إلى هيئة كبار العلماء بالأزهر.. وفور إقرار الحكم بإبعاد الشيخ الشاب عن الأزهر والمحكمة الشرعية أرسل شيخ الأزهر برقية إلى القصر الملكى تحمل التهنئة بالتخلص من المفكر المشاغب.
هذه أول معركة حول كتاب فى مصر الحديثة.
خرج منها الكاتب الشاب متهمًا بالإلحاد، لأنه فكَّر فى الاتجاه المعاكس للسلطة.
الملك كان يريد الخلافة، ويروج أنها من فروض الإسلام.. والشيخ الشاب بحث وفكَّر ورفض منطق الملك. المناخ الذى أفرزته أحلام الملك أتى بالإخوان المسلمين بعدها بسنتين فقط «١٩٢٨».
ويأتى اليوم بأحزاب صغيرة تكتب شعاراتها على استحياء.. وكأنها بضاعة مهرَّبة من مخزن قديم.
يحتاج كتاب على عبد الرازق التفكير معه هذه الأيام.
نقلاً عن جريدة "التحرير"