وائل عبد الفتاح
تخترق الكلمات أذنك من نجع حمادى إلى المنيا.. يقولونها بإحساس أنها أمر واقع.. ويضعون عليها خاتم الحقيقة الدامغة: هذا ما يحدث بالفعل.
الحشد هنا فى قرى ومدن من قنا إلى المنيا.. يتم على أساس أن «الكنيسة وجهت بالتصويت.. لصالح لا» فيكون الرد التلقائى «ونحن سنقول نعم».
الإخوان يلعبون على مخزن التخلف الاجتماعى الذى عاش عليه مبارك، والطائفية المسيطر عليها أهم كنز فى هذا الميراث تلعب عليه الجماعة وتضعه فى الصدارة. كنز الطائفية هو سر الوجود للإخوان هنا فى الصعيد، خصوصا بعد فقدان كل العناصر الأخرى بعد تجربة الأشهر الستة فى الحكم الكامل.
ورغم الروايات المرعبة من الكشح إلى نجع حمادى فإننى ما زلت أصدم من رائحتها الموجودة كأنها هواء طبيعى. القادمون من بعيد تزعجهم الرائحة العطنة للطائفية. كأننا فوجئنا بالوحوش تخرج من أجسادنا الطيبة.. كأن الدولة كانت لديها مدينة ملاهٍ تدخلنا كل مرة فى معركة، وعندما ضعفت الدولة ها نحن فى بيت المرايا. نحن أمام أنفسنا كما لم نكن منذ ٢٠٠ سنة هى عمر الدولة الحديثة، حيث أجلت كل المعارك برفع الدولة إلى مقام التقديس والهيمنة بالقبضة الكبيرة. الآن نحن أمام الحجم الطبيعى للكيانات نراها بعد الخروج إلى العلن. فى ضوء البحث عن مستقبل بعد ضعف قبضة الدولة. بعد تكسير حنان الدولة مع هيبتها. الباعة المتجولون يحتلون مساحاتهم نفسها التى كانوا يحتلونها تحت رعاية الدولة وبارشوتها.. لكنهم دون هندسة الدولة تنتفخ مساحتهم.. وتصبح مصدر إزعاج ورعب.. وهذا ما يمكن أن نرى به فورة السلفيين.. يتصرفون كما لو كانوا أمراء طوائف منتصرين.. وعليهم إعلان النصر فى كل مكان. هذه مشاعر تصنع دائرة لا يستطيع الفرد الخروج منها ببساطة.. إنها تحدد موقفه من العالم ونظرته إلى المستقبل. يتصور الفرد مثلا أنه متسامح، لأنه يقبل بوجود الآخر أو يبتسم فى وجهه. وربما فى هذه البسمة شعور خفى بالاستعلاء، لأنه فقد كل ما يتعلق بالعالم إلا ما تبثه الطائفة من نرجسية قاتلة. سحر الطائفة جذاب فى لحظات الضعف. لماذا إذن يلمع هذه الأيام وبعد انتصار الثورة؟ لماذا يتكلم الجميع بمن فيهم أصحاب خطاب التسامح، ليسوا كبشر عاديين لا مصلحة فى المساواة والعدل والحرية.. ولكن كموزعى أنصبة على أسْرى ومهزومين. هذه مشاعر عجز تنتفخ بقوة وهمية.مشاعر لم تتخلص من ماضيها فى حرب «المظلومية». المسلمون صارعوا المسيحيين على موقع: من هو المظلوم؟.. ودخل كتاب وصحفيون وقورون المزاد لإثبات أن طائفتهم هى الأكثر ظلما. لماذا أصبحت الهوية الدينية حاضرة بقوة هذه الأيام؟ هل لأن المسلمين أصبحوا مسلمين أكثر؟ هل لأن هناك خطرا على الإسلام.. أم أن الخطر على المسيحية؟ لماذا أصبحت الطائفة أهم، وأقوى، والتعامل بمنطق الجماعات الصغيرة هو السائد؟
الاستبداد فى مصر يوحد الأديان، ينشر اليأس ويزيد أعداد المستضعفين فى البلاد.. وهذا سر النزعة العنيفة باتجاه الطائفة أو العائلة أو كل جماعة صغيرة. الدين هنا ليس أكثر من لافتة تتجمع عندها عصبية، تتوهم حربا دينية، لتغطى عجزها عن الحرب الأساسية ضد الاستبداد والفساد. الكنيسة فى مصر ليست عدوة المسلمين.. إنها مؤسسة سياسية تلعب بالسياسة لتحقيق سلطة أوسع على المسيحيين، سلطة سياسية ومالية، وتلعب بها السلطة الكبيرة لتسيطر على المسيحيين. الكنيسة لا تخوض حربا ضد الإسلام، لكنها تخوض حربا بالمسيحيين لصالح موقعها فى السلطة. كما أن الإسلام ليس فى خطر، المسلمون مثل المسيحيين كانوا يشعرون بالضعف فى مواجهة سلطة غاشمة، جبروتها مفرط، وبدلا من البحث عن الخصم الحقيقى، من السهل تصنيع عدو، وبدلا من الصراع حول وضع قواعد ديمقراطية تضمن الاحترام للجميع، يبحث المصرى عن ميزة، أو ريشة توضع على رأسه ليهرب من مصير الضحايا.
مناخ يُعلى الطائفة ويغوى كل من يجد فى نفسه ميول زعامة سهلة. زعامة طائفة أكثر سهولة من زعامة سياسية تتصادم مع السلطة.
الزعامة الطائفية لها وجاهتها الأخلاقية أيضا.. فأنت مقاتل ضد أعداء الدين، وهؤلاء لا يمكن تحديدهم بشكل دقيق، إنهم حسب الأهواء. الشيخ يتحول إلى زعيم باسم الدفاع عن الإسلام.. رغم أنه ليس سياسيا ولا يفهم فى السياسة. ورجال الدين فى الكنيسة يحاربون للحفاظ عى موقع نواب المسيحيين فى الدفاع عن مساحتهم.. التى يشعرون الآن أنها مهددة أكثر من أى وقت مضى. إنها غواية الدفاع عن الطائفة.. غواية سهلة.. سهلة جدا.. تصنع شعبية، لكنها تشعل الحرائق بعيدا عن صانع الاستبداد أو مهندسى القمع قبل الثورة وبعدها. هل هناك من يسمع؟ هل هناك من يقرأ تاريخ الطوائف فى أى بلد فى العالم، من أمريكا إلى لبنان، ومن الأندلس إلى العراق؟ ماذا فعلت الطوائف بكل بلد لمع فيه سحر الدفاع عن الطائفة؟
للطائفة سحر قاتل.. يقتل سعادتنا جميعا
نقلاً عن جريدة "التحرير"