وائل عبد الفتاح
فى ٢٥ يناير ٢٠١١ قلت لأصدقائى: هذه ليست ثورة على الحاكم.. إنها ثورة المصريين على أنفسهم.
وقبل أيام من ذكرى الخروج الكبير للمصريين، الثورة ما زالت مستمرة، وتتسرب من الشوارع إلى البيوت، وإلى المبانى المعطنة بالبيروقراطية المصرية، وقلاع مؤسسات السلطة.. بل وإلى دور العبادة التى تصور الشيخ فيها أنه حاكم بأمره وبقدرته على تغييب الناس ونزع ملكات التفكير فيهم.. الثورة لم تدع فى المظاهرات فقط، ولا المليونيات.. إنها فى كل مكان تطل فيه السلطة القديمة بذيولها الأنيقة والشرسة.
بهذا المعنى يبدو خروج النائب العام الذى عيّنه المرسى محاطًا بوكلاء النيابة، صورة رمزية لمجتمع يخرج أجمل ما فيه ردًّا على سلطة تخرج أقبح ما فيها.
النائب العام استقال بعد أن كان بطل الفصل المثير من رواية إعادة الاستبداد، صدر قرار تعيينه بعملية خداع أراد فيها المرسى وضع رجله فى النيابة، وكأنه يحرر القضاء من رجال مبارك.
وكان يمكن أن تمر خديعة المرسى، ويصدق المصريون أن المقيم فى قصر الاتحادية يعرف مصلحتهم وينفّذ بيده إرادة الثورة، إلا أن هناك تغييرًا كبيرًا فى المجتمع لم تستوعبه الجماعة التى أرسلت المرسى ليكون مندوبها فى الرئاسة.
لم يفهم المرسى وجماعته، أن الفرد الذى كان بعيدًا عن كل ما يتعلق بالسياسة، يتفرج عليها من بعيد، وكأنها لا تخصه، يحاول إنقاذ نفسه والاختباء فى بالونة شخصية: «إن شالله البلد تتحرق» بدأ يستوعب ومنذ الثورة أنه «مواطن» بالمعنى السياسى، أى شريك فى صناعة العقد الاجتماعى بين السلطة والفرد، وأن هذا البلد «يخصه»، وأن ما يحدث فى السياسة.. «سيؤثر عليه ولو كانت بالونته من حديد..» وأن «كل شىء ولو كان صغيرا.. سياسة».
هذه القطاعات ليست مسيّسة بمعنى أنها لا تنتمى إلى أحزاب أو تيارات سياسية، لكنها مسيّسة بالمعنى الذى تهتم فيه، وتشارك وتدرك مع الزمن أن رأيها أو فهمها لما يحدث مهم لحياتها ومستقبلها.
الجماعة تعاملت «على قديمه» أن هذا شعب يسكن المخازن التى تستدعيها السلطة ساعة التصويت فقط، وتمتلك خبرات ترويضها لتضع فى الصناديق ما تحبه السلطة وترضاه.
لم تدرك الجماعة وشطارها أن المواطن.. «القديم» موجود، لكنه الآن مجرد كورس منخفض الصوت، وقليل الفعالية فى مواجهة مواطن «جديد» غير قابل للترويض... ولا يمكن خداعه بهذه السخافات والشعارات الجوفاء.
الثورة تستمر لأنها استطاعت تحرير هذه القطاعات من بؤسها القديم، الهائم، حيث لا معنى للحياة، ولا شىء أكثر من الانتظام فى قطعان تديرها السلطة التى كانت بالنسبة إليهم تشبه القدر.
الثورة أثبتت أن السلطة ليست قدرًا.. ولا أمرًا واقعًا.
ولهذا عندما أراد شطار الجماعة أن يكونوا «الأمر الواقع» رفضتهم قطاعات «المواطن الجديد...»، الذى لم يعد يتحمّل كذب السلطة ولا جبروتها، ويبحث عن كرامته وحريته ولا يمل مع تدينه بمنطق تاجر القطاعى الذى يبيع لتاجر جملة مصاص دماء.
المواطن الجديد... يريد أن ينزل السلطة من أبراجها المقدسة، فيطلب من الرئيس أن يظهر بطاقته الشخصية للتأكد من تغيير محل إقامته، وإلا لماذا غير موطنه الانتخابى؟
ويريد أيضا أن ينزع الدين من أيدى حراس الإرهاب، ودعاة النفاق.. ويقول لهما معا «لكم دينكم ولى دين...».
الثورة وصلت إلى دار القضاء، ولم ينتظر وكلاء النيابة السلطة لتحمى القانون أو تزيل العدوان على مؤسستهم، اعتصموا حتى زال العدوان.
نعم.. تعيين المستشار طلعت عبد الله عدوان من الرئاسة تصدى له مجتمع القضاة، وهذا هو المعنى الكبير وراء فصل النائب العام فى رواية إعادة بناء الاستبداد... الفصل لم ينتهِ بعد، خصوصا أن السلطة لم تدرك أن أدواتها فسدت، ولم يعد أحد سيصدقها إذا ادّعت أنها تحرر القضاء باحتلالها له.. أو أنها تخلص السلطة القضائية من نائب عام تابع لمبارك وتضع بدلا منه نائبا عاما تابعا للمرسى وينفذ أوامره وأوامر مكتب الإرشاد فى حبس الثوار المعارضين لمخططهم فى حكم مصر.. لا يعنى الرغبة فى تطوير المحكمة الدستورية أن يتم تدميرها بروح انتقامية تستهدف أشخاص قضاة.. التحرير لا يتم لمصلحة الجماعة حتى وإن رأت الجماعة مثل أى فاشية أن مصلحتها هى مصلحة الوطن.
لم تعد للفاشية حياة هادئة هنا فى مصر بعد ٢٥ يناير ٢٠١١.
نقلاً عن جريدة "التحرير"